إبداعات

قصة من وحي التاريخ كاترين هوارد و المقصلة

   نجاة الشحي - الإمارات

أطل القمر في ليلة جميلة أمام نوافذ قصر نورفولك القديم ، وضج المكان بالضيوف وما أن انتصف الليل حتى بدأت الأنوار تنطفئ شيئًاً فشيئًا، فربة هذا القصر امرأة عجوز وكانت لا تسمح لضيوفها أو زوارها بإنارة الأضواء وقت إخلادها للنوم فهذا ما تعلمته لاسيما وأن ضيوفها من سلالة الأسر المعروفة المرموقة المستوى ، ولكن ما أن تخلد العجوز للنوم ، حتى يبدأ الفتيان والفتيات كذلك بإنارة الأضواء متناسين تلك القوانين، وتستمر ليالي السمر  أثناء نوم المرأة العجوز المحافظة على القوانين والقواعد بالنسبة للأسر الكبيرة .

كانت تلك العجوز غريبة الأطوار، فقد حولت غرفتها إلى حديقة طيور تغرد داخل أقفاصها في غرفتها لأنها عاجزة عن اللهو، فهذه العصافير ترجع ذكريات شبابها الضائعة لها .

في هذا القصر كانت تقيم الفتاة الفقيرة كاترين ابنة سير أدموند هوارد، حيث أن والدها أخو اللورد نورفولك لوالدته الذي يمتلك هذا القصر . كانت كاترين فتاة فقيرة الحال عاشت مع أسرة فقيرة ،ولم تكن هناك من دلائل أو بشرى تشير إلى  أنها سترتقي يوماً ما إلى عرش انجلترا، فقد كانت فتاة في سن الخامسة عشر ، مرحة ، حسناء ، ذات شعر حريري ، براقة العينين  أغناها ذلك الجمال الرائع عن ارتداء أجمل الحلي ، فقد كانت تزين بجمالها  قصر نورفولك المليء بالفتيان والفتيات. كان هناك شاب يعشق كاترين الصغيرة يدعى فرانسوا ديرهام من أقارب أسرة نورفولك ، لكنه كان فقير الحال مثلها تماماً ، وكانت الدوقة تستلطف فرانسوا لأنه  صاحب  لسانً جميل في التحدث مع الآخرين، وكان يحب النوادر و له دور كبير في القصر  بتنظيم الرحلات وابتكاره وسائل جميلة للتسلية، وكانت الدوقة تكتفي بالجلوس مع بقية الشبان وتضحك من نوادر فرانسوا رغم أنها لا تعرف ما يقول بسبب سمعها الضعيف.

اعتلت مكانة ديرهام عند رفقائه كثيراً فأثار ذلك الحقد والحسد من قبل المعلم مانوكس الذي طرد من القصر مرة بسبب كاترين، حيث كلف بمهمة تدريسها وهي في الثالثة عشرة من العمر، وكان يحاول التقرب منها بشتى الطرق ومرة تجاوز حدود الأدب بإلصاقه وجهه بوجهها ، ففزعت الصغيرة لتصرفه المجنون وصرخت، وعندما جاءت الدوقة اعتبرت الطرفين مذنبين فصفعت الفتاة وطردت مانوكس ، ولكنه هذه المرة عاد واستلطف الدوقة وبدأ يحقد على ديرهام لأن امتلك قلب كاترين ودبر مكيدة تمهيداً لطرده من أجل الحصول على كاترين فأخبر الدوقة أن ديرهام وكاترين يتجاوزان الحدود في كونهما صديقين وهناك أمور أخرى مخفية عنها تتعدى حدود الأدب ، ما جعل الدوقة تدخل على كاترين والشاب وهما يتحدثان معًا فانهالت ضرباًا عليهما بالعصا

عندها صاحت كاترين:  ” نحن عازمان على الزواج ”

إلا أن الدوقة لم تهتم بذلك ، وبعد ذلك قرر الدوق والدوقة إرسال كاترين إلى          ” لامبت ” حتى يتم تأهيلها للعمل كوصيفة في قصر الملوك ، وفي هذا القصر التقت كاترين بابن خالها توماس كولبيبر  وكان شاباً جميل الهيئة يهتم بأناقته ، فبدأ يتودد لكاترين وبدأ الاثنان دائماً يتنزهان في الغابات والحدائق معاً،  ووجدا أنهما متشابهان في الميول وهنا نسيت كاترين الجميلة ” ديرهام” .

عصف القدر في وجه كاترين وتوماس، فلقد أمر توماس بالتوجه إلى لندن لخدمة الملك هنري الثامن، وتصبح كاترين كذلك خادمة للملكة ، وبدأت كاترين تسأل بشغف عن مواصفات ذلك الملك فتحدث توماس عنه باعتباره رجلًا غريب الأطوار  يحب الثقافة ويعشق دراسة كتب اللاهوت.كان ضخم الجثة له شعر أحمر نابت على وجهه وعينان صغيرتان واحدة مفتوحة وأخرى مغمضة وهو في عمر الخمسين ، ثم أخذا يتحدثان عن الملكة بعد أن وجهت  كاترين سؤالًا إلى  توماس عن ذلك فوصفها بأنها قبيحة المظهر أتت من شواطئ نهر الراين وهي في عمر الرابعة والثلاثين، ومنذ أن وقع ناظر الملك عليها كرهها حيث أن وزيره كرومويل هو من ساهم في  إتمام هذا الزواج ، لذا ظل الملك حانقًا عليه بسبب هذا الاختيار ، فبدأ الخوف يتسرب إلى نفس كاترين بعدما سمعته عن الملك والملكة. ذهب الفتيان و معهن الفتيات للقصر وهناك قام رئيس الأساقفة  ونشستر  بتجهيز وليمة كبيرة للملك هنري الثامن، وكان في هذه الوليمة ما لذ وطاب من أصناف الطعام وبدأ الجميع يأكل بشراهة ومن شدة هذه الشراهة كانوا يغسلون أكفهم بأغطية المائدة     أو برؤوس الكلاب التي أخذت نصيبها من ذلك الطعام الشهي .

تخلل الحفل  عزف الموسيقى والألعاب ، وفي هذه الأثناء جلس هنري الثامن على كرسيه وهو يداعب لحيته الحمراء وكانت الملكة بجانبه، ويقال إن الفتيات ارتفعت ضحكاتهن بسبب شكل الملكة المائل للبلاهة، وفجأة لفت نظر الملك هنري  جمال كاترين الحسناء فاقترب من توماس وسأله عن تلك الفتاة ، فقال توماس بفخر : هي ابنة عمتي جاءت لخدمة الملكة منذ أيام،وبدأ يدقق النظر في كاترين متناسيًا وجود زوجته الملكة، فلقد أعجبته من النظرة الأولى . بدأ الملك يتقرب من كاترين بإعطائها الهدايا الثمينة، ومع الأيام صار الملك يناديها: ” ورد بلا أشواك ”

أحست كاترين بالقلق من جراء اهتمام الملك تجاهها ، وشعر توماس بأن كاترين تبتعد عنه، لكنه رضخ للواقع فكيف يعترض وهذا ملك قد يرسله  يوماً لحبل المشنقة لو تدخل ، وبدأت كاترين تعيش صراعاًا نفسيًا، فإذا ما وفت لتوماس الفقير وتزوجته فإنها ستتلقى التوبيخ من أسرتها، خاصة وأن فرصة اقتران فقيرة بالملك أمر تتمناه جميع الأسر الكبيرة فكيف بالفقيرة !.

في هذه الأثناء قرر الملك فسخ عقد زواجه من زوجته آنا كليف وهي رابع زوجة  له بعد أن تزوج قبلها كاترين دارجون ذات العينين الغليظتين وبعدها أنابولين النحيلة ومن ثم جان سيمور الفاترة وأخيراً آنا كليف التي لم تكن على شيء من الجمال وقد تزوجها في يناير 1540م .

وقد رأى الملك هنري الثامن أن أول خطوة سيقوم بها هي إرسال وزيره كرومويل لبرج لندن تمهيداُ لإعدامه لأنه خدعه بزوجته آنا، وبعد بضعة أشهر قام رئيس الأساقفة الانجليكان بفك العقد  ورأى الملك أن يرسل الملكة ” آن ” لأهلها في ألمانيا بدلًا من إرسالها للمقصلة لقطع رأسها كما كان مصير زوجاته الأخريات حسب القانون وكانت” آنا ” سعيدة لأنها لم تقتل كالسابقات .

وفي يوم إعدام الوزير بعد أن فصل رأسه عن جسده تم زواج كاترين من الملك هنري الثامن ذي الأعوام الخمسين والذي يشكو من عاهات كثيرة ، فتم الزفاف وسط حفلات ضخمة لم تشهدها بريطانيا قط في ذلك العصر .

شعر الملك بسعادة عارمة لوجوده مع الجميلة كاترين، حيث ألبسته ثوب الشباب والنضارة فكان يتمشى معها ويذهب للصيد معها ، وبعد ذلك استطاعت الملكة أن تفرض نفوذها عليه بجلب جميع أفراد أسرتها – أسرة هوارد – للقصر الملكي فأدخلتهم في حاشية الملك وأصبحوا ذوي نفوذ ، وبلغ حب الملك لمدللته كاترين أنه في إحدى المرات قرر أحد الأشراف من مقاطعات الشمال الثوار على العرش الزحف  إلى القصرلإخضاع المملكة، فطلبت كاترين من زوجها أن تذهب معه فوافق وقال لجيشه : “أصغوا للأميرة فإذا رأت أن خوض المعركة ضروري فافعلوا، وإذا رأت أن تمتنعوا عن القتال فامتنعوا عنه”

وبذلك أصبحت كاترين القائد الأعلى للجيش، و أثناء سير الجيش كانت تتبادل الرسائل مع توماس الذي كان يسير جنباً إلى جنب  مع  الملك وذلك بمساعدة وصيفتها الليدي روشفورد التي كان من المستوجب أن تطيع الملكة في ذلك باعتبارها الوصيفة .

مرت الأيام وبدأت كاترين تقابل توماس خطيبها وحبيبها السابق على خفية عن الملك وبكيا معاً فقالت كاترين له وهي تبكي: ” يجب ألا تحقد عليّ يا توم العزيز إنك تمزق قلبي، وإن الملك ليس خالداً لكنني أطلب من الله أن يطيل عمر الملك، فأخذ توم يديها وهو يبكي ويقول :  “سأنتظر متذرعاً بالصبر مهما طال الانتظار” .

ولم يكن الملك يشك في تصرفات توماس فقد كان يصطحبه معه للصيد والقنص ، ولكن جاءت العواصف تلطم كاترين مرة أخرى في الصميم ، حيث كان هناك حاقدون يحومون حولها وأولهم رئيس الأساقفة  كرانمر، وهو صديق الوزير  كرومويل  الذي تم إعدامه، ويعطف على زوجة الملك السابقة جان سيمور التي فصل رأسها عن جسدها كذلك ، فقد جاء رجل من قبل خادمًا من قصر نورفولك يخبر الرئيس بأن سلوك كاترين في القصر فيه العديد من الشوائب وكان هذا الخبر مهماً لينتقم رئيس الأساقفة  كرانمر من كاترين، لكن كان هناك عائق هو : من سيخبر الملك بذلك ؟ لأن المكلف بهذه المهمة طبعاًا سيقتل، فالملك يحب كاترين بجنون.

وفي نهاية الأمر قرر رئيس الأساقفة نفسه أداء هذه المهمة “مهمة إخبار الملك بسلوك كاترين في ذلك القصر ” وفي إحدى الأيام عاد هنري الثامن من رحلة صيد فأعطي ورقة مطوية تكشف ماضي كاترين ، فما أن قرأها الملك حتى استدعى الأسقف كرانمر وأرسله لبرج لندن وبعدها تم طلبه من قبل الملك فأخبره بما سمع عنها في قصر “نورفولك” .

بدأ الملك في التحقق من الأمر ، وفي تلك الأثناء ذهب كرانمر للملكة وكانت تجهل ما حدث ، فأخبرها بأنها خدعت الملك وخانته فبدأت تنتحب وتبكي مؤكدة أنها منذ اقترانها بالملك لم تفعل أي خطيئة وأقسمت بذلك ثم قال لها : ليس هذا السؤال يا ابنتي ما يهمنا ما حدث في قصر “نورفولك” لقد دونت أجوبتكِ ، وقعي هنا ، وهنا ، والآن أضرعي لله أن يشملكِ برحمته ”

سقطت الملكة على الأرض وقد غطت عينيها الدموع ، وذهب كرانمر للملك ثم وضع أمامه الورقة التي دوّن فيها الأسئلة والأجوبة وعليها توقيع الملكة أي أن التهمة ثبتت ووجبت إدانتها .

بكى الملك هنري الثامن بشدة وبدأ يصيح : “إن هذه المرأة عار على أسرتنا لقد سمعتهم يقولون إنها ترمق ابن خالها توماس بنظرات لها مغزاها أراهن هو أيضاً أحد العاشقين ”

بعد ذلك قام الملك بالسؤال عن مكان وجود الملكة، فقيل له إنها مسجونة في دير بالقرب من “ريشموند” وكذلك الدوقة نورفولك هي وأسرتها بعد إحراقها جميع الأدلة التي تهدد ديرهام وكذلك تم اعتقال توماس كوليبير .

وفي ديسمبر 1541 م حكم على الحبيبين السابقين للملكة (توم و ديرهام) بالإعدام شنقاً على أن يتم إنزالهما قبل أن يفقدا حياتهما ويتم تقطيع بطنيهما ويتم إحراق أمعائهما مع قطع رأسيهما أي تم التمثبل بهما وقتلا أبشع قتلة .

وفي أواسط يناير عام 1542م عقد مجلس النواب واللوردات جلسة تمت فيها إدانة الملكة، وصدر حكم إعدامها ولم تدافع الملكة عن نفسها، وبقي الملك يفكر في زوجته التي أحبها بصدق وهو عاجز عن الدفاع عنها بعد الإدانة ، لكن الملكة كانت متيقنة من أن هناك شعاع أمل سيأتي ليخلصها من الحكم الجائر في حقها ، وفي أحد  الأيام دخل رسول الملك على الملكة يخبرها بأنها ذاهبة للندن ، فصرخت بأعلى صوتها: ” لا لا لا” لأنها أدركت أنها ذاهبة لمصيرها الموت .

وفي 6 فبراير من العام نفسه سيقت  الملكة الصغيرة لبرج لندن وكانت تقول بصوت خافت :” لقد أخذوا توم هنا لقد قتلوه هنا”، وفي التاسع من فبراير دخل عليها جون جاج رسول الملك ليخبرها بأن حكم الإعدام سينفذ غداً، وتم إحضار الملكة قبل إعدامها إلى منصة الإعدام ليخبروها كيف يجب عليها أن تضع رأسها بعد أن تركع بركبتيها    مع إلصاق جبينها بالخشب واكتفت كاترين بعبارة ” أشكركم سأذكر هذه النصيحة “.

وفي يوم الإثنين العاشر من فبراير من ذلك العام  أعدت منصة الإعدام ومشت الملكة بثوبها الأسود كيومها الحالك آنذاك فهي لم تفارقها طرقات الليل المستمرة، حيث كان النجارون يعدون المنصة بإحكام.. مشت خطوات والمحتشدون حولها.. كانت شاحبة الوجه.. ألقت نظرة حزينة باكية على المحتشدين وقالت بصوت خافت : “أقسم لم ارتكب أي خيانة تجاه الملك ..نعم كنت منذ سنوات أحب توم قبل أن يتخذني الملك زوجته ليتني أخذت بنصيحة توم عندما قال: “أخبري الملك بأنكِ مرتبطة بسواه فلو فعلت ذلك لما قُتلت يا توم ولكنت زوجتك فهذا أفضل من  أن أكون ملكة، ولكن الجميع أرغمني على ذلك..أنا لم أخن هنري لكن خطيئتي أنني افترقت عن توم وأنا ذاهبة للقائه ارحمني يا رب.

صعدت كاترين الملكة الصغيرة بخطوات متثاقلة درجات منصة الإعدام ، فركع الجلاد أمامها يطلب الغفران لما هو مقدم عليه لأنه عبد مأمور فقالت له كاترين بصلابة : قم بمهمتك واذكرني في صلاتك !

وضعت رأسها في المكان المخصص لذلك كما تعلمته ليلة البارحة ورفع الجلاد فأسه لتنهال على رأسها الناعم وانفصل عنقها عن جسدها وكانت كاترين في عمر العشرين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى