إصدارات عندما يصير الدّم عطراً خواطر وهمسات أحمد فواز

صدر للكاتب أحمد فواز عن دار النشر اللبنانية “مؤسسة الرحاب الحديثة” كتابه “عندما يصير الدّم عطراً  خواطر وهمسات “، وكتب مقدمته الدكتور ستام المعوش.
المقدمة
أ. د. سالم المعوش
خرجتُ من عالم أحمد فواز الخواطري، كما أسمى عمله، وأنا ملتحف بأغمار الورود وأنفاس العطور، ووجود مستعصٍ على الحضور، يستجديه بهمسة شاعر، ولهفة عاشق، ونفحات صوفيٍ، وتأمّل شاهد يقارب الحكمة، ومناجاة وطنيٍّ يبحث عن وطن، وآلام جريح عمّق الوجدانُ جرحه..
ما أروع أن يتحول السيف إلى فرع زهرة محمّل بالبشارة، وما أجلَّ أن يندى القلم محبة، ودُنْيا رقيقة، في زمن غابت عنه الأصالة والحميمية، وحلَّت محلها سيوف القطيعة وتباريح القساوة..
حبّذا لو تحققت رؤاك وأحلامك وأفكارك وتطلعات روحك المثقلة بالأمل الخصب، إلى المسكن العطري الذي تدعو الناس للجوء إليه..
ألحَّ الصديق أحمد على الأقلام والأوراق حتى أحالها سلاحاً يقبض عليه، يمتشقه في رحلة الحرف والإبداع.. أبى إلا أن يشارك الكتّاب والمبدعين في مواجهة العاصفة الممتدة في جسد الوطن وأجساد الناس.. وهذا ليس بالقليل على ناشرٍ اختبأ فيه كاتب وشاعر: «ستأتين أيتها العاصفة.. سأغلبك بعناق أحبتي ولمّ الشمل، وأرشقك بحروف النور والبهاء المتفجر من قرطاس أدباء وشعراء ومبدعين مخلصين لأرواحهم ووطنهم (أنا والعاصفة.. وبلدي)»..
ذلك السيف المجبول من أرق المعاناة، ومن رؤى العقل وعزيف الشعور، يتوغل في أمداد الحياة وخلايا الدم، ليصبح صوتا تتجاوب أصداؤه عبر التاريخ والواقع، ليقول كلمة فارقة على لسان الإنسان والزمان، في فلسفتيهما التأملية ورحاب نفسِهما المحمولتين إلى أفق تلتمع فيه الحياة..
نعم يا صديقي، أنت الشاعر الانسان، صرت أكثر وعياً وإحساساً بما يحمله الزمان من قلق وريبة، صرتَ أكثر تحديداً لموقفك من نفسك ومن لوعة الإنسان..
عبثاً نحاول أن نهرب من تلك الصّوفيّة الفاعلة العارمة التي تكسو كلامه بجو العطر: خواطر وهمسات ومواقف..
فإذا أحبّ فهو منصاع «للنصف الآخر» الجميل والنقي والوفيّ والنوراني الذي يرسل أشعته من عيون قلبه واسرار روحه..
وإذا تأمل فليرى الوجود في وحدة تتمرد على السلام والمحبة والبناء السليم وتبقى لديه ذاكرة تستنهض البقايا لتنهي الصمت وتخرج من الهمس إلى الجهر.. تلامس شفاهه العطشى دروب الناي ليصل إلى الخالق يمجّده وجداناّ وحباّ وصفاء، يستمطر وجع الكلمات لعلها تفتح باب المستقبل يروي الزهر فيه بقطرات العطور..
وإذا أحبَّ فحبيبته «أميرة الوجود»، قبسٌ من الروح، موج من الوجدان المتلاطم في جوهر الإنسان.
فانظر إلى هذه الصوفية التي تجعل الحب «هوية وانتماء» وروحاً تتغلغل في روح، ورواية روح، وموسم هجرة إلى الأنفاس، وأيقونة تتوهج في الخاطر..
ما أغنى نفسك يا صديقي بكنوز الشفافية والنورانية، يغمرك التعبير الصوفي، يغسلك بالحلم والرؤية والرحيل والأمل والغياب والحضور والعطور والورود، والهجرة والوعود والبوح والأسرار والخفاء والتجلّي والارتجاف والارتعاد، ومداعبة الشمس وأنفاس الغجر، وحلاوة الصمت ومطر العيون..
ذلك المطر الذي تأبى أن تحبسه فيتحول إلى هطول دائم. واذا كانت قصيدة هطول، سفرك الميمون إلى الخصب الروحي والدنيوي فإن ذلك الهطول قد صار في عملك سيمفونية صامتة تختلج بهطول التفاؤل، وأنت تجعل الأنفاس تهطل كالعطر في نيسان لتروي الروح فتثمر حبّاً وعشقاً.. وهطول نور اللهفة يعجّل في نعاس القمر..
وإذا كانت قصيدة النثر تختفي بالصورة، فما يميّز عملك في قسميه: الاول والثاني، براعة التصوير ودقة رسم المشهد واستلال روح المعاني من جسد الموجودات، وإشراق المشاعر في اشتداد الحلك، والتماع النفس في مرارة الحياة.. فلا عجب إن جعلتَ الحب ينهمر كالمطر، وعطراً للإنسانية، والشروق يطلّ من بين أهداب الحبيبة، والحب من الله تكبير ابتسام، كما جعلت للغياب مرارة كالجفاف، والشفاه العطشى تنتظر الهطول، وعطر الحبيبة يروي الروح، والحاجبين سيفين لقهر القهر، وللأنفاس موسماً للهجرة، وأزهار الغمزات عشقاً يكوي القصيدة بآخ الأبدية..
لا أغالي إن قلت :إن احمد فواز يستحق جدارة الشعر، على الرغم من اعترافه بأنه ليس بشاعر..
يستحق الجدارة في عذوبة مناجاته التي غص بها عمله، في إهداء نفحاته إلى أمته، وفي وجع كلماته وفي معاناته من ابتعاد الحبيبة واستحضار طيفها وأرقه الجميل، وفي استكشافه هالة النور المخبأة..
ويستحق الجدارة في تأمله وخصب خياله وخلوصه إلى حِكَمٍ متنوعة تطال شتى شؤون النفس والجسد والموجودات كلها..ويستحق جدارة الكتابة في اعتناقه الكلمة وسيلة لانعكاس تفجّر عقله وشعوره، إذ لم يكتفِ باللغة مركباً خشناً حيناً وليّناً حيناً آخر، بل انتقلت حماسته إلى الحث على الكتابة المستلّة من الضمير، غامراً إيّاها بخطراته النقدية الأدبية وتوقفه عند من اساؤوا إلى الشعر في الهذر الذي روّجوه، وأمله بأن يعود الشعر إلى طبيعته الوجدانية الراقية، وإنتاج الكلام الصادق الذي ينمّ عن فيض المشاعر والأفكار والإحساس وفي طليعتها تملّك اللغة..
تلك الحماسة التي دفعته إلى صوفيته الفاعلة في تقدير ما يجري من آثام وشرور، وبيع ضمائر، وإخفاق الوطن في كل شؤونه..
وبعد أيها الصديق:
رسالتك دعوة إلى الانضمام إلى قافلة الياسمين، والى ربيع يسقيه مطر حقيقي وليس مطراً رصاصياً أليم. لا يمكنني إلا أن أثني على صدقك وحسن طويتك..
إن التعبير يصبح أكثر جذبأً عندما يتعلق بشعور جوهري لدى الانسان.. وما عاينته هو الجوهر اللمّاع الذي يبحث عن جواهر يضمها إلى قافلته.. جوهر يطلق الذهن نحو آفاق عليا من الحرية والحب النقي والمتعة الفنية المنبثقة من استخدام اللغة السهلة الممتنعة.. تلك اللغة التي أرتنا مباذل نفسك وهي تقترب من النثر حينأ وتبتعد منه في أحيان كثيرة.. لغة إنزياحية عن المعنى الحقيقي للكلمات، مجازية تبتكر من المحسوس معنى جديداً لتحمله إلى عالم يُخرج المسكوت عنه إلى دائرة الاهتمام..
أهنئك على هذا الوليد الجديد، وأهنّىء نفسي على الانضمام إلى قافلتك التي تمور بالحب والأحلام والآمال والحرية، وتَعِدُ بربيع جديد يقطر عطراً وليس دماً..