استطلاع
نزهة في “غاليبولي هوم”.. بيت للمسنين في إحدى ضواحي سيدني الأسترالية # أمان_السيد* – سيدني
أمان السيد
مبنيان متكاملان يتسمان بروعة التصميم
مكتبة واسعة كتبها على طبقات
الزيارة التي تأتيك بلا موعد، وبلا ترتيب تحصي فيها وجوه إدهاش تسري إليك كما تسري النسائم في عبّ ليل صيفي، تثير من الشجون ما تثير، فتدفعك إلى إعادة النظر في كل ما يمر بحياتك، وما لم تعتد التوقف عنده طويلًا، وإن كنت وقفت، فذلك وقوف العابر غير المعني بما يراه، تلقي بنظرة إشفاق، أو تتمتم بكلمات مواساة، أو قد تصمت، ليس لأنك معني، أو مكترث، بل لأنك تعتقد أن من المبكر جدًا أن تفكر في ما تراه من مشاهد، ولا سيما وأنك ما تزال في مقتبل العمر، أو أنك بين متوسطين تقع.
إنها “غاليبولي هوم” دار للمسنين تقع في ضاحية “أوبن” إحدى ضواحي ” سيدني” في أستراليا، ولو أنك تستطيع أن تخطط لتلك المرحلة من عمرك، أو لو أنك تقدّر ما ينتظرك، لتخيرتها دار إقامة وسلام، ومعبرًا إلى حيث الاستسلام الأبدي إلى الخلود.
مبنى مشيد بروعة التصميم، ودقة الرسوخ، يواجه مسجدًا كبيرًا تحسبه قطعة من الجنة هبطت باطمئنانها إليك، من الفردوس، مبنيان يتكاملان حضورًا، وسكينة، وخشوعًا. المبنيان خلفيتهما جهة واحدة ” تركيا”، أما الداخلون، والمستقرون، فأصناف ثرّة، مكانيًا وزمانيًا، وثقافة، وإنسانية لا تستطيع حبس أنفاسك من التلاحق حيالها.
ليس الحديث هنا عن المسجد التركي، وإن كان يليق به المديح بشدة، إنه عن الدار التي تستقبل من المسنين ما تفرق، ونأى، قصص وحكايات وآلام، وأكداس من التخيلات يمكنك أن تقرأها في وجوه نزلاء تلك الدار من رجال ونساء أردى بهم العمر مخلّيا أشكالًا بشرية، أخاديد، وجوهًا، خطوطًا، عيونًا باهتة، خرساء أحيانًا، جامدة مثل ينبوع اشتد به الجفاف بعد أن ذرف من الدموع أنهارًا، وإذ به يتمسك بثمالة جذوة، تحتاج من النحت جرفًا كي تولع من جديد. إنه الانطفاء ما قبل الأخير.
الطابق الأول في الدار يحمل اسم ” جنان”، وليس باعتقادي أنه يرمز إلى الفئة التي اختصت بالنزول فيه، وإن كان التجانس في الحروف يخطر لأول وهلة، إنه اسم استقي من جنان النعيم بإيحاء ديني إسلامي، يختصر شعار الدار، وغايتها في جعل المسن، نزيلها يستشعر الرحمة، والعناية، والسعادة التي تنتظره، أما الاسمان الآخران للطابقين الثاني والثالث، فقد حملا اسم زهرتين شهيرتين قي تركيا، لهما في الدلالات بحر يغوص، فـ ” بوبي” الزهرة الحمراء، أو التي تعرف أكثر بـ ” الخشخاش”، لا تغيب فائدتها الطبية، ولا رمزها التاريخي في الحروب، حين جعلت في ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى، و” توليب” أو” اللالاه” الزهرة الأشهر في تركيا مقدسة لارتباط اسمها بالله، وتعتبر رمزا من رموز الجنة على الأرض. كل ذلك تحت عنوان عريض للدار” غاليبولي هوم”، والذي يشير إلى النصر التركي في تلك المعركة على قوات تحالف مشتركة في الحرب العالمية الأولى أيضا.
حين تتجول في المبنى، تأخذك روعة امتزاج الألوان الوردية والحمر المنتقاة لورق الحائط الذي طلي به المصعد الموصل إلى الطوابق الثلاثة، ومن المؤكد أن اختيار زهور معينة شهيرة وردية، وحمر كان عن عمد، جُعل منها خلفيات لصور كتب توحي بأنك داخل مكتبة واسعة ستنتقي منها ما شئت من الكتب طبقات، لتكتشف أنها ستفتح عن المصعد، ليس غير، وكأن صور الكتب المكدسة أرتالا على باب المصعد، وألوان الورود المستلقية بهدوء داخل المكان، تهيئك نفسيا لتقبّلٍ، وتفكّرٍ في ما ستواجه، وبعدها بإمكانك أخذ استراحة جميلة بالاتكاء على مقعد خشبي أمام نافورة ” بحرة” تركية يفور منها الماء انتشاء، تجلب إلى مخيلتك، وأنت ترتشف القهوة، أو الشاي، دمشق، وإسطنبول، وسورية الطبيعية بجمعها، وأجدادا عثمانيين وثّقوا فينا ثقافة ما تزال كثير من جذورها تحتفي بحياتنا حتى اليوم.
أليس كل إنسان كتابا، وسفرا مشرعا لا حدود له؟ فكيف بالإنسان، وقد خمّرته الحياة وأنضجته التجربة، فخاض فيها عملا، وإعمالا إلى أن أودى به العمر إلى ما أودى من التعب والإنهاك، وتلاشي الذاكرة والعقل أحيانا، وإلا فما الذي يدفع المسن إلى اكتراء هذه الدار وأمثالها نزلا ومستقرا، أو إلقائه فيها مكرها؟!
أولاده الذين لم يطيقوه احتمالا، عائلات أبنائه، الكنة، الصهر، حتى الابن، أو الابنة نفسهما اللذان شغلتهما الحياة، وطحنتهما في رحاها، فصحّرت المشاعر في القلوب، أو تكالبت عليهما فلم تترك لهما متنفسا لرعاية أب، أو أم وصلا إلى مرحلة من العمر، أرذلها، فارتد الكبير الصغير الذي يحتاج الرعاية والاحتضان، وكأن الشاب يغفل في تأججه، وغلوه أن الزمن ليس إلا عجلة تدور، فلا هي تستقر عنده، ولا عند غيره، وأن ما تزرعه اليوم تجنيه غدا..
لا عزاء لمن أنحى عقله جانبا، ولا عزاء لمن يمر بأولئك المسنين المنفيين من الحياة، ولا يتوقف طويلا، ويقلّب ما يراه، تنوع ملفت حقا، مسنون، عجائز، فرادى، وثناء، عزّاب، ومتزوجون، عقلاء، وفاقدو العقول، جامدون كأموات، ومرتعشون كقطرات ماء صمدت طويلا، ثم تكسرت، وراء كل باب غرفة مشهد إنساني رهيب الوقع بما يحمل من وجع البوح، وللعابر في الممشى سريعا أن يتوقف، لا بد أن تستوقفه علامات دخول، عناوين، توقظ فيه كثيرا من أسئلة تشفع لها الصور التي رصفت داخل صناديق من زجاج قرب كل باب، منها ما يحمل صورة لنزيل الغرفة حين كان شابا، ومنها ما يحمل قصاصة من جريدة تسرد نبذة من حياته العملية في ما مضى من العمر، ومنها ما غرست فيه صور لأحبته من أبناء وأحفاد، أو للحظات من حياته كانت تعني له الكثير، كل ذلك بجانب اسم النزيل، أو النزيلة محفورا بخط أنيق.
كل شيء هناك أنيق حقا، يريح، ويبعث على الصفاء، والسكون، أما في الغرف، فهناك أجسادهم هياكل ترتاح فوق أسرة مرتبة نظيفة، ويحظون بالعناية والرعاية اللائقة من قبل فرقاء متخصصين من أطباء، وممرضين، ومرشدين نفسيين.
تجويد، وأناشيد دينية، وأنغام موسيقى تصلك، تتساءل كيف لها أن تتعالى في هذا المكان بتلك الرحابة، والطلاقة، لكن الجواب يأتيك سريعا: إنها للنزيل، كان يوما قد عشق عبد الباسط عبد الصمد، والحصري، وهام بفريد الأطرش، سميرة توفيق، آسيا، أشكن نور ينغي، آيلين آسليم… ، و.. أقرباؤه أخبرونا بذلك، لذا فالإدارة تخلق له الجو الذي يتعايش فيه بسلام مع ما يتبقى له من العمر.
“كمال” مسن تركي يعاشر كرسيه طوال اليوم، فارقته التعبيرات إلا من انشداهه، وهو يتابع عبر قناة تركية مغنيته التي يحبها، كمال، لا تخفى وسامته، وأناقة عهدها، أشبه قائدا عثمانيا، أو فنانا تركيا، كان موسيقيّا عذب الصوت، رومنسيا رقيقا باعتراف الواعين من زملائه النزلاء، ومن طاقم الإدارة، أنامله سحرية في العزف على “البزق”، وكان يُسعدهم بالغناء والعزف، إلى أن وقع خلال نزهة في الحديقة، ليغدو في إثرها التمثال المأسور بقناة تركية وحيدة، ومغنية من الزمن القديم تماثله عمرا، أما زوجته التي جيء بها حديثا إلى الدار، فهي ترفض رؤيته، وتصعق الجميع بحجتها، إنها لا تحبه، لا تطيق منه الرومنسية التي يتصف بها، ولا مشاعر الحب التي يبدو أنها انتعشت فيه لرؤيتها، ثم خمدت حزنا، وقهرا، لذا بوعد بينهما في الإقامة غرفا، ولم يتجرأ القيمون على الدار على أن يجمعوا بينهما ثانية، كي لا تردى بالزوجين الحال أكثر، ولعل للمرأة عذرها في ذلك، فلا يدري بالنفوس سوى خالقها!
ذلك بعض من الكثير الكثير من الحكايات التي ترتع في الطابقين الأول، والثاني، أما ما يجري تحتهما، فمطاحن، ومواجع، ومسارح، في تجمّع أكثر اتساعا، وانفساحا، وغرابة يسرح فيه من فقدوا عقولهم بحريات لا تعرف لها ضوابط، يخشى منها على بقية النزلاء، طابق سفلي صنّف نزلاؤه تصنيفا حساسا، وخاصا!
ترى، ألا يدفع الوضع برمته الزائر إلى التدبر فيما أوتي من نعم، وإلى أن يعيد النظر في كل ما حوله، ثم يرجو الله متأملا لو يحظه القدر يوما بأن يحجز له مكانا في ذلك الوادي الخصيب؟!
*أديبة أسترالية من أصل سوري لها مجموعة إصدارات