مقالات

صندوق النقد الدولي ابتزاز في ثوب المساعدة د. أحمد الزبيدي – الإمارات

 في أحضان غابات مدينة “بريتون” الأمريكية الساحرة، وعلى سفح جبل “ماونت واشنطن” الشاهق وفي أعلى قمم شمال شرقي الولايات المتحدة ، ثمة فندق “ماونت واشنطن” الشامخ بلون الثلج يربض كقلعة محصنة عقدت أخطر اتفاقيات القرن على الإطلاق، ففي مطلع صيف عام 1944، وقبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها، دعت الولايات المتحدة أكثر من 44 دولة إلى عقد مؤتمر محفوف بالسرية والكتمان يهدف إلى إعادة هيبة الدولار الأمريكي، وإلى استقرار قواعد النظام النقدي العالمي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص، والعمل على نمو معدلات التجارة العالمية، وقد تمخض المؤتمر عن عدد من التوصيات، لعل أهمها ما جاء في توصيف “الصندوق الدولي” وتحديد طبيعة عمله، حيث يعمل على استقرار النظام المالي العالمي الجديد، وتقديم العون للبلاد النامية ، وإخراجها من ضيق الفقر إلى سعة الغنى، والأخذ بيدها إلى “جنات” الرأسمالية والليبرالية الحديثة الموعودة، غير أنه في الحقيقة وبحسب من تعامل معه وجربه من الدول هو أشبه ما يكون بـ “هادم اللذات”،  فعمله الحقيقي هو ابتزاز الدول، وحرمان شعوبها من أبسط مقومات الحياة الكريمة.

نظرة واحدة إلى صندوق النقد الدولي وبرامجه المزعومة تدرك معها جبروته وهيمنته وأنه دولة عظمى بدون حاجة إلى جيوش جرارة وأسلحة فتاكة، ذلك أن سلاح المال هو أقوى من ذلك كله.

فقد كان في كل تدخلاته ينتهك سيادة الدول، ويجبرها على تنفيذ شروطه القاسية ، حيث تخلف وراءها مساحة عريضة من الخراب والانهيار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي، ووسيلته في ذلك كله “المال” حيث أعده للتمويل، وحيث أن المال هو “عصب الحياة”، وهو قوام حياتهم ولا تقوم الدول إلا به، فلا مندوحة للدول الفقيرة عن الالتجاء إلى الصندوق والرضوخ لقبول شروطه وتنفيذها، فلا يزيدها إلا خسارة وفقرًا وتبعية واستخذاء، وتجاربه في أفريقيا ، وآسيا، وأمريكا خير برهان على ذلك.

نعم، إن الصندوق ومنذ نشأته الأولى درج على بذل المساعدات، وتقديم والمعونات للدول المرة تلو المرة؛ ولكن بلا  نمو أو رخاء ، بل خلف وراءه  في كل بلد دخلها الفقر والبؤس والحرمان، وأبشع صور التبعية والذل والاستخذاء.

لأمر ما أُريدَ للصندوق الدولي أن يكون قوة فاعلة ، عمله الأول والأخير هو التمكين لأمريكا من الهيمنة العالمية، وتعزيز نفوذها في شتى بقاع الأرض، ولأجل تحقيق ذلك رسموا له مراحل أربعًا يمر من خلالها إلى مبتغاه.

المرحلة الأولى:

 تركزت حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ليكون الهدف الرئيس فيها هو التمكين للدولار الأمريكي ، ليكون العملة الأساس، ويكون الميزان للناس، ومقياس نظام الصرف الأجنبي، وما بين عشية وضحاها صار الدولار مثل الهواء والماء لا تستغني عنه دولة من الدول بما فيها الدول الكبرى المنافسة.

 وفي عام 1973 قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بما يسمى بالصدمة، وهي إلغاؤه التزام الولايات المتّحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، حيث أصبح بعدها الذهب حرًا لا حكم لأحد عليه سوى العرض والطلب، وأصبحت جميع العملات بما فيها الدولار الأمريكي تقف على أرضٍ واحدة وصارت كلّها عملاتٍ إلزامية ورقية لا قيمة لها في الواقع سوى التزام الحكومات بها، فانخفضت قيمة الدولار 40 ضعفًا من عام 1973 إلى الآن، وارتفع سعر الذهب بشكلٍ جنوني، وأصبح سلعةً عادية مثله مثل الفضّة والبلاتين وغيرها.

بهذا تم خداع دول العالم كلها بما فيها دول مؤتمر “بريتون وودز”، فكانت صدمة حقيقية، فبعد أن كانت الدول تعمل على تكديس الدولار الأمريكي كاحتياطي للنقد الأجنبي لتستبدله بالذهب عندما تريد، أصبحت الآن عاجزة عن ذلك ومجبرة على التعامل بالدولار بعد ما عملت على جمعه وتكديسه سنوات عدة.

المرحلة الثانية:

كان أبرز ما في هذه المرحلة انقلاب “تشيلي” الذي نظمته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي.آي. إيه”، حيث أطاحت بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي وأتت بحليفها الديكتاتور أوجستو بيونشيه ليكون عميلًا مخلصًا لها، عمله فقط تنفيذ إملاءات مدرسة شيكاغو الاقتصادية، التي تميزت برفضها نظرية الاقتصاد “الكينزي”
لصالح المدرسة النقدية الليبرالية الحديثة، جاعلًا منها قانونًا يصوغ على أساسه سياساته وأحكامه، ولأمر ما غض صندوق النقد الدولي النظرعن فشل تجربة الليبرالية الحديثة في ضوء النجاحات الباهرة التي حققتها الصين وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ على الرغم عن تخليها عن مبادئ الليبرالية الحديثة، بل لا نعدو الحق إذا قلنا إنها لم تحقق ما حققت من نجاحات اقتصادية وعلمية إلا لتخليها عن الليبرالية الحديثة، لهذا كانت تنبؤات صندوق النقد كلها تنبؤات كاذبة، ووعودًا فارغة، أشبه ما تكون بوعود عرقوب.. صارت مواعيد عرقوب لها مثلاً     وما مواعيدها إلا الأباطيل،

فليست تنجز ميعادًا إذا وعدت إلا كما تمسك الماءَ الغرابيلُ

وإن كان ثمة فائدة تجنى من قروض الصندوق، فإنما هي قروض تذهب لصالح الفئة الباغية،الفئة القليلة الحاكمة المستفيدة، أما الفقراء والبؤساء والمحرومون فقد زادوا فقرًا على فقر، وشبعوا بؤسًا على بؤس، وانتهوا إلى حرمان ما بعده حرمان.

لم يقف الصندوق عند هذا الحد، بل راح يشجع الدول ويزين لها  خصخصة المشاريع العامة من خلال بيع المشروعات العامة للقطاع الخاص؛ من مطارات، وموانئ، وجامعات، ومستشفيات ، ومصانع أدوية وغير ذلك مما يسمى بنى  تحتية ، حيث تعتبر عماد الدول والعمود الصلب لوجودها،  وقد أثبتت التجارب أن الخصخصة لا خير فيها، ولا تقدم قيمةً مضافةً لموازنة الدولة عند سعر السوق العادل، وإنما فقط تقوم بتحويل أصل من صيغته الحقيقية إلى سيولة نقدية.

وقد عملت الخصخصة على تحرير القطاع المالي من التوجيه الحكومي، ما مهد وسهل الطريق أمام المصارف الأمريكية العملاقة للوصول إلى أقصى ربوع المعمورة، فكانت النتيجة فقرًا مدقعًا، ومجاعات قاتلة، وتدهور النظامين الصحي والتعليمي.

المرحلة الثالثة :

تزامنت هذه المرحلة مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الشرقية، حيث أطلق الصندوق الدولي العنان للمال الغربي للتسلل إلى أسواق رحبة ظلت موصدة في وجهه لوقت طويل،غير أن ستالين بعد وفاة الرئيس روزفلت الذي كانت تربطه به علاقات جيدة، خلفه الرئيس ترومان، وبموت الرئيس روزفلت انتهت حقبة العلاقات الحميمة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وتبدلت العلاقات الصديقة إلى علاقات عدائية بدأها الرئيس ترومان بإنهاء برنامج القروض السوفييتية، فما كان من ستالين إلا الانسحاب من عضوية الصندوق ورفضه التوقيع على مخرجات مؤتمر “بريتون وودز” المرحلة الرابعة:

هي المرحلة الحالية من مراحل صندوق النقد الدولي فحسبك ما تراه وما تسمعه من إغراق كثير من الدول العربية في مستنقعاته، ولا أدل على ذلك من وضع دولة ” لبنان” الحالي، فقد مضى عليها أكثر من عام وهي تفاوض الصندوق، وقد أعلن عن بعض شروطه على الحكومة اللبنانية مقابل برنامج التمويل، مثل التدقيقَ الجنائي لحسابات المصرف المركزي، لكن “إنجاز هذا شرط مُلحَق لكي يتمّ الاتفاق على برنامج صندوق النقد، أمّا باقي الشروط التي كان الصندوق قد تحدّث عنها، كإعادة هيكلة القطاع العام، فهي شروط قد يستغرق تنفيذها وقتًا طويلًا، وقد تكون اتفاقًا مبدئيًا وليست شروطاً مسبَقة لدفع الأموال، أو قد تكون شروطًا للدفعة الثانية أو الثالثة بتقدير وزير العمل السابق كميل أبو سليمان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫14 تعليقات

  1. ماشاء الله دكتور أحمد زياد ربنا معطيك من العلم والفكر ودقة الوصف والتحليل ما يعجز عنه أدباء وفلاسفة ومفكرون ومبدعون.
    بوركت وبوركت هذه الصفحة والمجلة التي تتيح لأمثالك نشر كثير مما يعلمون.

  2. أكثر دكتور من هذه المقالات فهي داعمة لنهوض الاقتصاد الاسلامي وإنهاء الهيمنة الاقتصادية الغربية

  3. نشكر للكاتب الدكتور الزبيدي على نشر العلم النافع والتوعية الطيبة، ونشكر المجلة والقائمين عليها إتاحة مساحة لمثل هذه المقالات القيمة

  4. مقال جميل و متعوب عليه، ما شاء الله تبارك الرحمن،غير أن هذا مقال اقتصادي و ليس مقالا في الأدب و النحو و البلاغة، تحول جميل..فالمبدع هكذا دائما…
    لا يلتزم بمجال بعينه.
    بل يبدع في كل المجالات.
    ما شاء الله تبارك الرحمن.
    أحسنت يا ابا محمد الزبيدي

  5. موضوع وفق في طرحه الدكتور الزبيدي. اللهم بارك له في عمله واجعله في ميزان حسناته. مع الشكر الجزيل لهذه المنصة الهادفة.

  6. أسأل الله عز وجل في هذه الليالي المباركة أن يفتح عليك يا شيخ” أحمد” لأنك تتحفنا دائما بمقالات فيها متعة للفكر وللعقل ، تتنقل من مقال أدبي إلى مقال فلسفي، ومن مقال فكري إلى مقال اقتصادي، كالنحلة تطير من زهرة إلى زهرة فتجمع من كل الثمرات ..
    بورك فيك وبورك في قلمك
    ودمت كاتبا مفكرا وأديبا

  7. ماشالله،، داائما المواضيع التي تطرحها تكون مميزة وبأسلوب شيق يجذب القارئ ..دمت وداام قلمك دكتور🙂

  8. جزاك الله خيرا دكتورنا علي تسليط الضوء علي موضوع طالما كان غير واضح المعالم للكثيرين

    يعتبر صندوق النقد الدولي أداة الابتزاز الأولي لأوضاع الدول وتغيير سياساتها بما يتناسب مع الاستعمار

    فلم اسمع يوما بانه منح قرضا لإنشاء مشاريع بنية تحتية في أحد الدول لتطويرها

    والسؤال هنا
    هل هناك مخرج من هذا النظام للدول النامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى