مقالات

 فلسفة القراءة وطرائف الأدباء د. أحمد الزبيدي      –      الإمارات

منذ نعومة أظفاري، ومنذ أن نيطت عني تمائمي، كان موعدي مع الكتاب، فمنذ اليوم الأول الذي أبصرت فيه عيناي نور الحياة، رأيت من حولي بقايا مكتبة فيها كتب قليلة، مواضيعها متباينة ؛ ولو ذهبت – الآن – أتذكرها لتذكرت منها ؛ كتاب :”أدب المهجر” للأستاذ عيسى الناعوري، وكتاب “الوجودية  لسارتر وكتاب “التفسير الواضح”  للدكتور حجازي، وديوان شعر ليس يحضرني اسم صاحبه الآن.  وكنت كلما كبرتُ تكبر مكتبتي معي، حتى بلغت الآن آلاف الكتب، وأراني أنها مع الأيام ستكبر أكثر فأكثر، وكم مرة أسررت لنفسي: “ليتها تتوقف عن الاتساع” ، ولكن هيهات..هيهات! أنى لها ذلك، والنهم في حب الكلمة المقروءة، والشغف في طلب العلم يزداد ضراوة وشراسة مع الأيام.

وكان من سوالف الأقضية أن كان عندي مكتبة، لقلبي محببة ، تشغل عقل كل زائر، وتلفت نظر كل خاطر، فما من أحد يزور، ويلف فيها ويدور، إلا ويسألني ذلك السؤال المكرور: أصحيح ما يقال، أن الكتاب أعز من العيال، وأغلى وأثمن من المال!

   وفي يوم من الأيام زارني شاب، مهندم الثياب، لا يميز الكوع من الكرسوع، انتحى جانبًا وشذ عن المجموع، وسألني سؤال المنكِرٍ المصروع: لماذا تقرأ ؟ وماذا تفيد من القراءة؟ فعجبت من هذه الشجاعة والجراءة، وسؤاله عن الكتابة والقراءة، وهو يتزيى بالنزاهة والبراءة.

 هذا السؤال هو الذي حملني على كتابة هذا المقال.

منذ وقت طويل لا أدريه، وقع لي كتاب صغير الحجم كثير الفائدة،أعجبني كثيرا، وتأثرت به تأثرًا كبيرا، وتفاعلت معه تفاعلًا شديدا ، وانفعلت به انفعالًا جديدا، حتى أنه كان من بين الكتب المؤثرة في حياتي، ذكرني في كتاب ابن مماتي، ولا أظن أنني أنساه إلى يوم مماتي، وكان يصحبني في سرحاتي وغدواتي، فكان له وقع خاص على حبي للقراءة وتعلقي بها، مما جعلها بعد ذلك نمط عيش، وأسلوب حياة.

  ولو كنت من أصحاب اليسار لتكلفت طبعه وتوزيعه على التجار، وصار لمن يقرؤه ويستظهر حفظه “جُعل” مُحرز سيار، وما ذلك إلا لأنه يفجر في نفس قارئه رغبة عارمة للقراءة، ويحمله على الصبر عليها، وبذلك يعيد للكتاب هيبته الضائعة، ومنزلته الرائعة، ويخلصنا من هذه الفاجعة! وأي فاجعة أعظم من ترك القراءة، وأي كارثة أشد من هجرانها!

 ألا فليعلم القارئ الكريم أن أول أمر إلهي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالقراءة، فيكون شعارًا للعلم والتعلم، ويكون نهاية لأمية الإنسان الدينية والدنيوية، ويكون أوّل وسيلة اتصال بين السماء والأرض، وتصير القراءة وسيلة الاتصال الرئيسة بين البشر، وجسرًا للتواصل بين الأجيال عبر الزمان والمكان، ولولاها لما كان تاريخ، ولا كان تقدم وارتقاء وحياة.

ذلكم هو “لماذا نقرأ”، سطره مفكرون وفلاسفة وكتاب وروائيون!

وقد يطول العهد بقارئ الكتاب فينسى كل ما فيه أو جله، ولكنه لن ينسى بعض عبارات جاءت فيه، وأقوالًا لعمالقة الفكر تحييه، وجبابرة العقل تشيد فيه، وصفوة الأقلام تعليه، وزبدة الأحلام تغليه.

قال المفكر محمود عباس العقاد : ” لا، لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة والقراءة، دون غيرها، هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب. فكرتك أنت فكرة واحدة..شعورك أنت شعور واحد..خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعورًا آخر، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين..كلا، وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي من الفكر والقوة والعمق والامتداد، ثم قال:لا تغني الكتب عن تجارب الحياة،ولا تغني التجارب عن الكتب لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما أن التجارب لا تغني عن الكتب، فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين”

 رحمك الله يا عقاد.

نعم، حياة واحدة لا تكفي، وعمر واحد لا يفي،  فطالب العلم وطالب المال مشتركان.. منهومان لا يشبعان.

وأينا لا يتوق إلى أن يضيف إلى حياته حياة ، ويجمع إلى رصيده أرصدة أخرى!

 حياةً مديدة وأرصدة عديدة ممن عاشوا قبلنا، قرؤوا وفهموا وجربوا وكتبوا.

وهنا أذكر قصة طريفة ذكرها الصحفي المصري المشهور أنيس منصور في كتابه “في صالون العقاد كانت لنا أيام” ويعد من الكتب القصصية التي تروي السيرة الذاتية والغيرية عن طريق قص الحكايا والمواقف التي عايشها منصور، ولا سيما الجلسات الأدبية والعلمية والحوارية التي كانت تدور في نادي عباس الأدبي يوم الجمعة، وكان يستضيف فيها الباحثين والدارسين والطلبة والعلماء ويتدارس معهم مواضيع متنوعة. قال:

“بعد أن  نشرت صحيفة الأخبار المصرية خبراً يفيد بأن عباس محمود العقاد سيتقاضى 200 جنيه عن تسجيل لقاء تلفزيوني، عاتب العقاد أنيس منصور قائلاً: «هل كثير على رجل كالعقاد قرأ 60 ألف كتاب، وأصدر 60 كتاباً، وأفنى عمره في عالم الفكر والفن أن يتقاضى هذا المبلغ؟ إن (مفعوصة) مثل نجاة الصغيرة تتقاضى ما هو أكثر من ذلك في 10 دقائق! يا مولانا إن بلداً يستكثر على العقاد مثل هذا المبلغ التافه لبلدٌ تافه، وصحافته أكثر تفاهة!».

قال المفكر حسين بهاء الدين :” لولا القراءة والكتابة ما كان التاريخ”. قلت: ولا كانت الجغرافيا، ولا  العلوم، ولا الأدب، ولا الفن ، ولا الموسيقى ، ولا الحضارة ولا المدنية، بل  ولا كانت الحياة.

أما طه حسين فقد قال:”زاد الشعب هو القراءة، يقبل عليها ويشبع بها جوعه إلى العلم والمعرفة وألوان الحضارة،إن الحث على القراءة خير ما يوجه إلى الأفراد والجماعات في جميع الأمم والشعوب.

وقول طه حسين قول حق لا ريب فيه، فإذا كانت التقوى هي خير الزاد ،ولا تتحقق التقوى بدون القراءة، فأي زاد أفضل منها!!

أما حسين فوزي فالقراءة عنده إدمان، قال :     ” القراءة نوعٌ من الإدمان الخطير، قد يتحمل الضحية في سبيلها كل حِرمان.. لا تصدَّنَّكَ صعوبة عن المضي في قراءة كتاب عظيم.    أعد قراءته، وسترى أنك بعد فهمه ستطالعه مثنى وثلاث ورباع”.

أما توفيق الحكيم رائد كتابة المسرحية العربية، صاحب الاسم اللامع، والقلم الناصع في تاريخ الأدب العربي فيقول:” عنيت دائمًا بقراءة أعلام الأدب المسرحي، لا قراءة متعة ولذة واستطلاع فقط، بل قراءة درس وتأمل وفحص، فكنت أقضي الساعات أمام نص من النصوص، أقلب فيه منقبًا عن أسرار تأليفه ومفاتيح تركيبه، مستخلصًا بنفسي ولنفسي ملاحظاتي في طرائق التأليف المسرحي، ذلك الفن العسير الذي أحببته أيضا لأنه عسير.

أما عادل الغضبان فإنه يفصل بين جانبي الكتاب المادي والمعنوي، ويرى أن ” في تحديده المعنوي هو الوسيط بين ذهنين، ينقل من هذا إلى ذاك عصارة الفكر وخفقة القلب، ويجعل بين الكاتب والقارئ مشاركة روحية يختلف أثرها باختلاف قوة طرفيها “.

وأنا هنا لا أريد أن أنقل لك أيها القارىء الكريم كل ما قاله أولئك الأعلام لأن ذلك يطول عليك، ولكني نقلت لك عصارة ما قالوا،وزبدة ما كتبوا، هم وغيرهم من العلماء والحكماء والفلاسفة، لعل وعسى أن يكون ذلك سبب تشجيعك في الرجوع إلى الكتاب، فتعرف حق صحبته وصداقته، فيكون لك كما كان للمتنبي:

أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ

                   وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ

ويصفو لك كما صفا لشوقي، فاستعاض به عن الأصدقاء والأقرباء :

أنا من بدل بالكتــــب الصحابـا

                لم أجد لـــي وافيـــا إلا الكتابــا

صاحب أن عبته أو لــــــم تعـــب

              ليـس بالواجـد للصاحب عــــابــا

كلمـا أخلقتـــه جـددنـــــــــي

               و كساني من حلي الفضــل ثيابا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى