مقالات

              فناء الغرب      بين ابن خلدون وباتريك بوكانن          د. أحمد الزبيدي      –      الإمارات

 

بنى العلامةُ عبد الرحمن بن خلدون -رحمه الله -نظريته الشهيرة في علم الاجتماع على أساس: “أنَّ للدولة آجالاً كآجال الأفراد، ومراحل عمرية كما الأفراد،وأن كيانها مرهون بنهايتها ،ثُمَّ تخلفها دول أخرى أكثر نظامًا ،وأشد قوة ، وأكثر فتكا، من سابقاتها.

وقال ابن خلدون إن السبب الأبرز وراء سقوط الدول هو “الاستغراق في الترف، والإمعان في الاسترخاء، وهو ما تقوم به الفئة المترفة التي ترفل في النعيم،وتغرق في اللذة، ناسية أو متناسية أو غير منتبهة أصلًا إلى فقر إخوانهم من الفقراء والبائسين…”.قال تعالى:(وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا).

وقد برهن ابن خلدون بتحليله هذا على قدرة العقل العربي الإسلامي على الخلق والتحليل والابتكار ، واستلهام نظريات علمية ثابتة، قادرة على العطاء، جاهزة للتنظير وفتح آفاق رحبة لمن يأتي بعده من الفلاسفة والمفكرين.

ولا غرو في ذلك، فإن القرآن العظيم قد بسط القيم، وفصل المعاني لضبط الحياة،ويبقي على استمرار توقد الشعلة الحضارية، ليتسلمها الخلف عن السلف،،غير أنه سمح للعقل البشري وشجعه على وضع الخطط والبرامج والأساليب، شريطة أن يكون ذلك كله باسم الله،فكرًا وسلوكًا وأنشطة حياة مادية ومعنوية سواء.

ولا غرو أن ظلت نظرية ابن خلدون حية ومُلهِمة عند كل علماء الاجتماع الذين جاءوا من بعده،وحذوا حذوه، وظل الأمر على ذلك حتى جاء الكاتب الأمريكي المعاصر “باتريك بوكانن” مستشار الرئاسة الأمريكية لفترات ثلاث ، الذي فعَّل نظرية ابن خلدون أحسن تفعيل، وطبقها خير تطبيق على الدولة الأمريكية وعلى الغرب، وقد رأى “بوكانن” من خلال نظرته الخلدونية احتضارًا قريبًا، وموتًا وشيكًا لأمريكا وللغرب ولكل من يسير سيرهم ويمشي على اثرهم، وذلك من خلال أمرين: الأمر الأول : الأزمة الأخلاقية، بل الكارثة السلوكية التي يعيشها الغرب وأمريكا من خلال مظاهر كثيرة، لعل أبرزها وأكثرها جرأة وفجورًا دعم الشذوذ الجنسي وتشريع القوانين لحمايته، فالقيم والأخلاق هي أساس الحضارة، ودرعها الحصين أمام عاديات الزمن،وخطوب الحياة، فالحياة بلا أخلاق فراغ روحي، والحياة بلا قيم خواء نفسي، يسوق الأمة – حتمًا- إلى الهلاك.

ولا يختلف اثنان في أن بقاء الأمم والحضارات مرهون ببقاء القيم والأخلاق.قال شوقي رحمه الله :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

                        فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الأمر الثاني : الاحتضار الديموغرافي، أو التناقص السكاني، وهو قوي وقاهر وغالب على أمره، والسر في ذلك – كما يرى –”بوكانن” :” أنه وباء محلي، صُنع على عين أمريكا، وهو نتاج ما عملته أيديها، وخطره يكمن في ضراوة فتكه،وشراسة تسلطه على الشباب، واعتيامِه إهلاكهم وإفنائهم.

ويرى “بوكانن”أيضًا أن هذا الوباء يعجل في هرم أمريكا وأوروبا ويسرع في شيخوختهما ،وكيف لا والأرقام والإحصاءات ناطقة بذلك، فظاهرة الانتحار في أمريكا ارتفعت إلى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه سنة “1960”، ومنذ ذلك الحين تنادى العقلاء، وحذر المصلحون من هذه الكارثة ولكن..

 لقد أسمعت لو ناديت حيـًا

                     ولكن لا حياة لمـن تنادي

ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت

                     ولكن أنت تنفخ في الرماد

وقد نادى بتحديد النسل بعض المتخصصين الغربيين،وتبعهم في ذلك بعضٌ من أبناء جلدتنا، مما هم محسوبون علينا، لما رأوا فيه من تحديات بيئية تهدد العالم أجمع، غير أن العقلاء والمفكرين منهم تنبهوا إلى أن قلة النسل تعني نقصًا في الأفكار الجديدة، وقلة في الابتكارات السديدة، وإنتاجية أقل، وأعباء أكبر، ما يُسلم إلى مستقبل لا يطمئن ، يختلف عما يتخيله أسوأ الناس تشاؤمًا، ويحضرني هنا ما كتبه المؤرخ المعروف “توماس بكل”، ، صاحب كتاب “تاريخ المدنية في إنجلترا” الذي اجتهد في أن يخضع النشاط الإنساني في أحداثه التاريخية المختلفة إلى نواميس ثابتة دقيقة كالعلوم الطبيعية سواء بسواء.قال “بكل” :” لابد للمدنية في مهدها من كثرة عدد ‌السكان..”.ويرى المؤرخ والفيلسوف العالمي توينبي ” أن القوى البشرية من أهم التحديات التي يتوقف عليها تقدم أي حضارة إنسانية.ومقالة توينبي وبكل تتفقان مع مقولة المفكر السياسي ” أورجانسكي حيث يقول”: إن أحسن أقطار العالم وأكثرها رفاهية؛ هو القطر الذي فيه زيادة السكان، وأنه أرفه ما يكون أيام يتجه عدد سكانه إلى الزيادة. وأصدق من هذا كله قوله تعالى 🙁 ‌وَقَدَّرَ ‌فِيها ‌أَقْواتَها). أي: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَ أَهْلِهَا وَمَعَايِشَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ، وقال سبحانه أيضاً:

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)

كذلك حديث رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم الصحيح :” تَناكحوا تَناسلوا”.

أما مدمنو المخدرات والحشيش والمواد الأخرى – في أمريكا-فقدبلغ عددهم الملايين مدمن ومدمنة، ونسبة الوفيات فاقت نسبة الولادة في بلاد أوروبية عديدة قدرت ب 17 بلدا ، كما يزعم “بوكانن”، وقوله حق!

ولا يخفى على أصحاب النهى أخطار المخدرات وأضرارها الفادحَة على المجتمع الإنساني عامَّة؛ لما تحدثُه من آثارٍ ضارَّة؛وعواقب وخيمة، حيث تلحق الضعفَ بالأبدان، والفسادَ في العقول،والانحطاط في الأخلاق،مما يعود على الفرد والمجتمع بالدمار، في كافة الجوانب السياسية، والفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية.

أما مفهوم الأسرة التي يشكل اللبنة الأولى في المجتمع، وهو عماده، وأساسه، ونواته الأولى، فقد أمست خيوطها أوهى من خيوط بيت العنكبوت، لمَ لا؟ وقد صارت العلاقات الشاذة بين الجنسين مشروعة، بل مرغبا فيها، من خلال إظهارها بأنها حرية شخصية، تخففا من أعباء الزواج، وهربا من تحمل المسؤولية، وطلبا للذة الشاذة الممنوعة في جميع الأديان والأعراف، حتى إن الحيوانات تعف عن ذلك وتنأى عنه، وقد أدى هذا السلوك إلى ضعف الرغبة في الزواج، بل وانصراف البعض عنه بشكل صارم، مع وجود الباءة المادية، والاستطاعة الجسدية، والقدرة النفسية.

قال “بوكانن” في هذا الصدد:” إن الثقافة التي أنتجت الحضارة الغربية …. هي في أوج موتها في الولايات المتحدة ، والتي لن تكون دولة غربية بحلول عام “2050”. وقد حمل الكاتب “بوكانن” وزر ذلك  الحكومة الأمريكية، فهي الراعية الرسمية،وهي المسئولة عن رعيتها، وهي المحاسبة عن كل ما يحدث لشعبها من موت وفناء وانقراض!

ولعل السبب في ذلك هو قيام حضارتها على ثالوث الشهوات :الجنس والمال والسلطة.

قال صديقنا الدكتور محمد علي –يرحمه الله- ، دكتوراه التفسير وعلوم القرآن-يرحمه الله-  إن تعريف مفهوم الأسرة في الإسلام تعني القوة، ويتقوى بها الرجل، حيث تعد الأسرة الدرع الحصين، وجمعها أُسر، بينما تُعرف الأسرة في الاصطلاح على أنها مفهوم شامل وواسع، وهي الوحدة الاجتماعية التي تحفظ النوع الإنساني كله، مشيرا إلى أن الأسرة تتألف من رجل وامرأة يرتبطان معاً “.

ومن يقرأ كتاب “باتريك بوكانن” يجده إنذارٌ صارخ لأمريكا وأوروبا، وقد سبقه إنذارات كثيرة، ليست بعمق وشفافية ما جاء في كتاب  بوكانن “فناء الغرب” ،ذهبت كلها أدراج الرياح.

ولو أردت أن ألخص كتاب “بوكانن” في سطرين، وأعبر عما جال في صدر المؤلف ولم يجرؤ على قوله، لقلت كما قال الأستاذ سلمان شققي في كتابه :”خماسية التدمير” : ” فـــي الحقيقـــة إن العلمانيـــة هـــي منبـــع لـــكل مـــن الأفكار التي تســـعى لدمـــار الجيـــل القـــادم، من هدم كيـــان الأسرة، وإباحة جميـــع الملـــذات، والدعـــوى للحريـــة فـــي الإلحاد، والجنـــس، والربا، وكل ما يزيد مـــن فرصة زيادة الانحطاط والانحراف للفطرة البشـــرية.

فكـــرة العلمانية بشـــكل مبســـط هـــي الدعوى إلى إقامـــة الدنيـــا علـــى العلم والعقـــل وأنهما الســـبيل الوحيـــد لحيـــاة الفـــرد بالحريـــة …وبهـــذه الدعـــوى المروجـــة للتحرر من الديـــن، ســـينتج عنهـــا جيل فوضوي لا دينـــي، همـــه فقـــط إرضـــاء ملذاته الجســـدية والعقلية، وكســـب المال والانتفاع بالثروات بـــأي طريقة مهمـــا كانت، وبالطبـــع فإن إنكار وجـــود الله والطعـــن الدائم في الدين الإسلامي هما هدفان أساســـيان في العلمانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى