قرب نهاية دوامي اليومي العادي. أنهيت مكالمتي اليوميه مع (أم العيال) التي لا يتسنى لي إجراؤها معها إلا في ذلك الوقت من زحمة العمل في السفارة، وجديته وانشغالي وما يعرف عن العمل في سفارة دولة عربية تتميز وتتمع بارتياد الكل لها و بالتقديس والمكانة وما يكون من أمر و نوع العمل فيها من تشابك ومشكلات والسفارة تقع في بلد عربي يعاني ما يعاني مجاورًا للبلد الذي تمثله .
وبعد أن عرفت من زوجتي أخبارهم في نهار اليوم ، و ماذا تم و ما فعلوا فيه، وعرفت منها مازحًا و مؤملًا ماذا أعدت لنا اليوم للغداء ؟ وتخلل المكالمة بعض الطرائف والطلبات والأخبار وما شابه …..لم أنهِ المكالمة متعمدًا، ولكن شاهدت الضوء الأحمر في جهاز الهاتف الذي ينبئ بأن هناك ضرورة ما قصوى وحتمية للرد عليها.
أتت المكالمة من سكرتارية او من استقبال السفارة في البوابة الخارجية للسفارة التي نشغلها كمكان لعملنا وبصفتي سفيرها ، و مما يؤكد أمر المكالمة المٌلح. خاطبني مسؤول البوابة بأدب جم بأن هناك زائرًا للسفارة يريد مقابلتي، وبأن الأمر بالطبع مسموح به إذ أن الدوام أو ساعات العمل لم تنقض بعد، وبعد تساؤلي عما هي العقبة إذن رد مسؤول أمن البوابة بأان الزائر رفض التفتيش الذاتي الذي يلزم كل زائر بإجرائه حين يطلب الأذن و السماح له بزيارة السفارة أو مقابلة السفير على وجه التحديد و الدقة… طلبت منه حينها الحديث مع الزائر فتحدث معي الزائر مؤكدًا أن الأمر لا يستدعي تفتيشه وأن رغبته في ملاقاتي لا تتعدى عرض بعض الطلبات الممكنة مني ليس إلا.
مرغمًا وأملًا في إنهاء دوام اليوم الحاشد والذهاب إلى داري التي تقع خلف مبنى السفارة أو يفصل بيننا جدار أطمع في تناول الغداء والراحة، أمرت مدير أمن للبوابة بالسماح له بدخول السفارة و ملاقاتي .
دخل الزائر إلى مكتبي واستقبلته بحفاوة و بشاشة كعادتي لامتصاص توتر أي زائر لي، وإراحته كي ينطلق في الحديث الذي أتى من أجله دون رهبة.. بغته و دون تروٍ أو حذر و في عجلة أو عن خبرة و تدريب و دراية أذهلتني وشلت تفكيري. أقفل الزائر باب مكتبي علينا بالمفتاح الذي كان داخل القفل وأدخله في جيبه وشرع في إنتزاع قنبلة يدوية موقوته وأشعل زنادًا كان يحمله في يده اليمنى و يحمل في يده اليسرى القنبلة مرددًا في حسم أنه انتحاري و أنه يرتدي حزامًا ناسفًا و أن جسده كله ملغم بالبارود أو ما يشبهه و أنه سيقوم بتفجير نفسه والسفارة بما ومن فيها إذا لم يتم له تحقيق طلباته ومآربه التي أتى من أجلها وهذا كل ما يريد.
تجمع لدي في ثوان كل ما يمكن قوله عن ردود أفعال الهلع والخوف والرعب، وتصبب العرق و و تزايد خفقان القلب وشعور اليأس لدنو الحتف وما شابه، لكن لم يدم ذلك الأمر و الشعور وتوابعه إلا تلك الثواني.
بعدها استعدت رباطة جأشي التي أتمتع بها وهدوئي المعلوم عني.. هونت علي الزائر الأمر بأن طلباته مجابة دون القيام بأي إجراء عنف أو تدمير وفقد في الأرواح والنفوس، وطلبت منه الجلوس بهدوء و القيام بإملاء الطلبات علي لمعرفتها وتقديمها لروسائي فوافق لكنه أكد لي أنه لن يتخلى عن قنبلته وتسليحه حتى يتحقق له الأمر أو حتى يتم تحقيق طلباتهن فوافقت وطلبت منه أن يسمح لي بأخذ هاتفي كي أدوِّن فيه طلباته التي حتمًا سوف يقوم رؤسائي بعرضها على حكومة دولتي على وجه التحديد لمناقشتها والموافقة عليها، اذ كانت طلبات أو أوامرعلى درجة كبيرة من الخطورة والإلحاح والحساسية، وقد تؤدي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها.
جلس الزائر و ما زال يحمل القنبلة ويهدد، فشرعت أدوِّن طلباته وأسجل اقواله متظاهرًا ببرود انعكس عليه، وبعد تدوين طلباته طلبت منه الهدوء والتريث وانا اقول له إن موعد الغذاء قد حان، وإنه يجب تناوله، واتصلت أمامه بـ (أم العيال ) مرة أخرى وأنا املي عليها ضرورة احضار وجبة غداء شهية وخاصة لضيف عزيز اقتضى العمل تناول الغداء معه .
قام الجميع المكلفون بذلك الأمرعلى أكمل وجه، وبعد أن تم إحضار وجبة الغداء وتم تناولها تم إحضار الحلوى والفواكه والشاي والقهوة وكل ما يلزم، وتم التعامل مع الزائر بطبيعية وكأنه ضيف عزيز أو قريب دون أن نحسسه بـي اختلاف حتى أتى الليل وطلبنا العشاء وما يلزمه من أمور و شاي و قهوه وحلوى، حتى حان موعد الإخلاد إلى النوم و نحن نتسامر بصفاء وود دون التطرق إلى ما أتى به إلينا، وذلك على أمل انتظار رد حكومتنا واستجابتها لطلباته في صباح الغد، ورغم ذلك لم ينس لحظة أنه في سبيله إلى تفجير نفسه والسفارة بمن وما فيها حين وجود تخاذل أو حنث في وعدنا له، مما حثني على أن أؤكد له رضوخ الحكومة لتلبية طلبه.
أتى صباح الغد و شرعنا في الاغتسال والصلاة و تناول الإفطار، وهو حريص على ترديد ما سوف يقوم به حال خذلانه رغم أنه كان قد تمتع بقدر كبير من الاستكانة والاسترخاء إلى أن أتى حين تناول شاي بعد الإفطار، فصب أحد الافراد المعنيين بالأمر أكواب الشاي لنا في براعة يحسد عليها، و إذ به فجأة يرشق وجه وعيني الإرهابي بكوب الشاي المغلي الحار ويعيقه و يقوم و من معه من أفراد الأمن الذين كانوا يمثلون دور الخدم في حذق ومهارة بالإمساك به وتطويقه وتكبيله بالقيود وأخذه إلى دائرة الأمن مع قوة أخرى منهم كانت تنتظرهم خارح مبنى السفارة، وتحيط بها للتحقيق معه.
انتهت بذلك ليلة مرعبة وضحاها من ليالي وأيام العمل في السفارة المليئة بأهوال ومشاهد و تعقيدات ومشاكل لا تخفى على أحد، ولكن كانت تلك من أعسر ما مر بي في مجال عملي الدبلوماسي، لكن و فقني الله في حسم الأمر والحفاظ على أرواح عدد لا يستهان به من الأفراد، وكل ما في الأمر أنني حين كان الإرهابي يملي عليَّ طلباته كنت أدخل خلسة على دائرة أمن البلد العربي الذي تقع فيه سفارة بلدي مستنجدًا بهم فتعاونوا معي بحرفية ودراية ومقدرة عالية و أنبأوني بالتعامل مع الإرهابي بكل أريحية وود وطلبوا مني التسامر معه، والحديث في مواضيع عامة عن الأسر و العائلة، وإحضار صور أولادي وأقاربي وتناول تلك المواضيع التي تدعو إلى لين الجانب والتساهل، وكسب وده و استمالته وقد كان ، كما تواصلت حينها أيضا خلسة مع (أم عيالي) وشرحت لها الأمر بإيجاز دون استرسال، فقامت بالواجب وأكثر في تجهيز الوجبات وحفظ أمن بيتي وتميز الخدمه المقدمه لنا وماشابه مشكورة، وقد تم إحضار فصائل من جهات أمنهم المدربة على تلك الحوادث كي يمثلوا دور الخدم وتقديم الوجبات وواجبات الضيافة وأصولها، وقد تم كل ذلك على أكمل وجه وفي براعة منقطعة النظير وفوز ونصر مقدر منهم.
قصة ممتعة تشدك …جميلة أكثر من رائعة