مقالات
“قصة الفلسفة” منهجية وتشويق د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي
لا أظن أن أحدًا قرأ مقالنا :”قصة الحضارة” إلا وتعرّف على شخصية الكاتب والفيلسوف الأمريكي”ويل ديورانت” – ولو بشكل جزئي- ولا أحسب أن أحدًا سيقرأ هذا المقال إلا ويزداد معرفة بالرجل، ولا يبعد أن يتجاوز ذلك فيسعى لاقتناء الكتابين معَا، والشروع في قراءتهما!. لا جرم أن “ديورانت” حقق نجاحًا باهرًا، وشهرة فائقة في تأليف كتابه “قصة الفلسفة” يفوق ما حققه من نجاح وشهرة في تأليفه كتابه “قصة الحضارة”، وإذا كان سر نجاحه –كما قلنا – في “قصة الحضارة” تكمن في دراسته للتاريخ كحركة متصلة،ووحدة واحدة ، فإن منهجه في “قصة الفلسفة”قريبٌ من ذلك، فقد درس فيه مختلف المدارس الفلسفية من يونانية وأوروبية بأسلوب روائي يقره الفن، ويرضاه الذوق، ويُحَسِّنُهُ الوضوح والاتساق، وتجمله الأناقة والدقة، وتقربه السهولة واليسر، حتى ذلَّل الفلسفة للمبتدئين، وبسطها للقراء العاديين، فوجدوا فيها موضوعًا شائقًا وعنوانًا رائقًا، لا يستوجب إغراقًا في التركيز، ولا إبحارًا في التأمل، ولا إعمالًا للذهن، ولا كدًا للعقل…! مما سهل الكتاب وجعله سائغًا للناظرين، ،فالحكمة فيه ممهدة، والفلسفة فيه موطأة، ولم لا؟ وقد كانت-الفلسفة- عقلًا محضاً، وفكرا صِرفاً، وتفكيرًا مجرداً، وتأملًا ساكنًا. أهل الفلسفة هم أقدر الناس على تذوق طعمها ، وتحسس فنها، و أكثرهم افتنانًا بروعتها، وانبهارًا بصورتها، من خلال درس هذا الكتاب.
لا شك أن”ويل ديورانت” رجَّ اصطلاحات الفلسفة رجَّا ،وبسَّ مفاهيمها بسَّا، وذلك من خلال عرضها –كما قلنا- في سهولة ويسر ، وإيجاز ووضوح، بعيدًا عن التعمق المضني، والسبر المتعب، وقد تسنى له ما أراد، وتحقق له ما أجاد، فجاء الكتاب مستقيمًا من غير اعوجاج،وبدا للقارئ “قصة” جميلة، ووردة في خميلة. والدليل على صدق ذلك أكثر من أن يحصى، فقد تميز صنيع المؤلف في كتابه بأنه ربط بين كل فلسفة وصاحبها،ومدرسة وقيمها، وجعل من الفيلسوف وفلسفته أمشاجاً من الفرح والحزن، والألم والأمل، والحماسة والعطف، فأشاع الحياة في المواضيع الفلسفية الساكنة،وحرك بيراعه المياه الساكنة، إذ جعل كل فلسفة تنبض بنبض فيلسوفها، وتنفعل بانفعالاته، وتتفاعل بتفاعله .كذلك زاوج “ديورانت” في كتابه بين العقل والقلب، والتفكير والإحساس، في ثنائية رائعة، وكانت المزاوجة- قبلُ- معضلة لدى الفلاسفة قديمًا وحديثًا. ونظرًا لجفاف المادة الفلسفية وإمعانها في العقلانية المجردة عند كثير من القراء،جعلها تحفل بإشكاليات كثيرة، ومعضلات كبيرة، حتى جاز ذلك على بعض الفلاسفة ، مما جعل بعض الفلاسفة الكبار يفرغون لها دراسة وبحثًا ونظرًا، فنتج عن ذلك لطول البحث والنظر تيار فلسفي جديد اتسم بالنزعة الإيمانية، أو ما يسمى بالإيمانيات،أو كما سماها توما الاكويني “الإيمان الباحث عن الفهم”، فكان من زعمائه كوكبة من الفلاسفة، وعلى رأسهم؛الفيلسوف الفرنسي “باسكال” و الفيلسوف الدانماركي “كيركجور”، و الفيلسوف النمساوي “لودفيج” والفيلسوف الأمريكي”وليم جيمس”. فقد رأى الفيلسوف الرياضي والفيزيائي باسكال -وقريب منه رفاقه- :” أن العقل ليس هو المصدر الوحيد للحقيقة، ذلك أن هناك حقائق أخرى إلى جانب حقائق العقل وهي حقائق القلب، وأن لها نفس القدر من اليقين” شريطة أن يكون العقل هو المرشد الأمين، فلا أحد ينكر العقل أو يقلل من سلطانه، فهو أعزُّ موهوب، وأخطر مسلوب.قال المعري –يرحمه الله-
والعقل أنفسُ ما حُبيتَ وإن يُضَع يومًا يَضَع، فغوى الشراب وما حلَبْ
وفي هذا المقال نلخص للقارئ الكريم –برأينا- أهم ما جاء في قصة الفلسفةباختصار غير مخل، وتطويل غير ممل، سعياً لتشويق القارئ وإثارة فضوله. قسم ديورانت كتابه البالغ “591” صفحة على أحد عشر فصلًا، وابتدأه بمدخل عن فوائد الفلسفة نقل فيه أقوالًا لكبار الفلاسفة-قديمًا وحديثًا- يثنون على الفلسفة ويذكرون محاسنها، فقد ذكر قول تورو:”أن تكون فيلسوفًا…أن تحب الحكمة محبة تجعلك تعيش حسب منطوق أوامرها..”، وقال سقراط :” إن أسمى معرفة هي المعرفة بالخير والشر، المعرفة بحكمة الحياة”، ثم أكد ديورانت ذلك بقوله :” لقد أخذت الفلسفة على عاتقها المهمة الشاقة المحفوفة بالمخاطر…قضايا كقضايا الخير والشر”. وهذا القول لا خلاف فيه، غير أن خلافنا مع الفلسفة والفلاسفة في مرجعية الحكم، ولمن تكون الحاكمية في ذلك، أي؛ الذي يملك أن يحدد الخير من الشر، ويَقدِّرَ الحُسنَ من القبح!.. إن معرفة الخير والشر، والحسن والقبح، والصلاح والفساد منوطة بالخالق الذي يعلم كل شيء، فهو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه ويفسده؟ قال تعالى: ﵟأَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ ﵞ، ﵟ وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ ١٠ ﵞ أي: الخير والشر. وقال الله تعالى: ﵟإِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ﵞ أي: بينا له ودللناه عليه. وإذا عذرنا الفلاسفة في قولهم ذلك فأي عذر للمعتزلة الذين حملوا كلام الفلاسفة “بعجره وبجره” ونازعوا فيه النصوص. قال المعري رحمه الله :
فإن لنا رباً علا فوق عرشه عليمًا بما نأتي من الخير والشر
ثم استهل الكلام عن “أفلاطون” ن 429 ق.م أحد ألمع نجوم الفلسفة، و أستاذه سقراط ت 399 ق.م أكثر الفلاسفة تأثيرا وانتشارا ، فهو من القلة الذين أثروا في تغيير النظرة إلى الفلسفة تغييرًا تامًا. كذا أرسطوطاليس (ت322 ق.م) ويُعدّ من أعظم الفلاسفة على امتداد العصور، حيث غطت مؤلّفاته شتى أنواع المعارف، بدءًا من المنطق والميتافيزيقا وفلسفة الذهن، مرورًا بعلم الجمال والبلاغة، والسياسة وغير ذلك. أما فرانسيس بيكون صاحب الفضل في توطيد المذهب الحسي، وصاحب المقالات، لا سيما مقالة”الشرف والصيت” الذي يقدم فيها الشرف والرتبة العالية للإنجازات السياسية دون المنجزات الأدبية والفلسفية.ولا غرو في ذلك فقد وصل إلى ذرى الفلسفة على سلم السياسة.ثم تكلم عن “سبينوزا“صاحب كتاب : إصلاح العقل؛ والأخلاق، والرسالة اللاهوتية السياسية.وصاحب الدعوة للحكم الديمقراطي، قال: “كلما اتسعت مشاركة الشعب في الحكم قوي التحابّ والاتحاد”.ثم تكلم على “ديكارت” صاحب نظرية الشك الذي جعلها أساس الفلسفة الديكارتية.ثم تكلم عن “فولتير” وربط اسمه بعصر التنوير، وهو صاحب الرسائل الفلسفية، وما بعد الطبيعة، ومبادئ فلسفة نيوتن، والفيلسوف الجاهل، وكتاب النفس ومحاورات أفيمير، والقاموس الفلسفي وهو أشهرها.ثم ذكر جان جاك روسو وإسهاماته في تاريخ الفلسفة السياسية ،وعلم النفس الأخلاقي، وكذلك تأثيره على مفكرين أتوا من بعده.ثم ذكر “كانط” فيلسوف عصر التنوير الأوروبي، الذي سادت فلسفته حقبة كاملة من الزمن، وأكثر أعماله شهرة؛”نقد العقل المجرد”،الذي أبان فيه محدودية العقل البشري، وقصور الميتافيزيقيا التقليدية.الذي عارض فيه “لوك”والمدرسة الانجليزية بقوله:” المعرفة ليست بأكملها مستخلصة من الحواس”.هذا ما ذكره ديورانت، أما الذي غفل عن ذكره، عبارات ما استحسنه ” كانط”من العرب وأخلاقهم ودينهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم . وفي دروسه في الميتافيزيقيا ” تحدث عن الفلسفة اليونانية والرومانية، قال: “وفي نهاية الأمر خمدت جذوة الثقافة عند الرومان، وظهرت البربرية، حتى جاء العرب..ونذروا أنفسهم للعلوم، وأولوا أرسطو مكانة مرموقة، وحين أفاقت العلوم في الغرب من كبوتها، تم اتباع أرسطو كالعبيد”. ثم تحدث عن الفيلسوف الألماني “هيجل” الذي ذكر في كتابه–حياة المسيح- قوله”إن المسيح ابنا لمريم”.وقوله عن الإسلام:”إن الإسلام قوة مضيئة، تجاوز سلبية الفكر الشرقي، وخصوصية الدين اليهودي.. إن صورة لله تعالى في الإسلام غير ملموسة كإله المسيحية..، وكان الإسلام هو المحرر من كل الحسابات الدنيئة، وهو ممزوج بكل فضائل كبر النفس والبسالة”. .
وتكلم عن آرثر شوبنهاور البولندي ،”ت 1860 م ” الفيلسوف المتشائم –في زعمهم-صاحب التأملات الثرة العميقة، ومؤلف كتاب:” العالم إرادة وتصورا” ، وقد امتاز شوبنهاور بأسلوبه الساخر في الكتابة، وقدرته على تحويل الأفكار المُجردة إلى صور حية. ثم تكلم عن الفيلسوف هربرت سبنسر “ت 1903 م “: عالم الاجتماع الإنجليزي، وهو واحدٌ من واضعي أساسات المذهب الموضوعي، وصاحب عبارة: «البقاء للأصلح».ثم تكلم عن فريدريك نيتشه، الفيلسوف لألماني، فيلسوف إرادة القوة والإنسان السوبرمان، وقد غلبت فلسفته على معانٍ كثيرة مثل الوجود والأخلاق، وكان لها أثرها البالغ في فكر الكثيرين في القرن العشرين .وختم حديثه بالكلام عن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي “ت 1952 م ” مؤسس الحركة الفلسفية المعروفة باسم البراغماتية، وقائد الحركة التقدمية في التعليم في الولايات المتحدة. هذه إلمامة سريعة بالكتاب، طفنا بها مع المؤلِّف، والمؤلَّف،وموضوعه، والمنهج الذي نهجه فيه، غير أن هذا العمل على نفاسته يبقى عمل بشري يتسم بالعيب والنقص، ويعجبني “ديورانت” انه فطن لذلك فقال: “ص27”: “إن كثيرا من الانتقادات التي وجهت إلى هذا الكتاب كانت مصيبة وعادلة..” . أما ملاحظاتي وملاحظات غيري ممن قرأ الكتاب فألخصها في كلمة. أغفل المصنف ذكر فلاسفة العرب والمسلمين،ومن وجه آخر، ذكر فلاسفة كبار، أمثال؛ ديكارت وهيجل،فلم يعطهما حقهما من الحديث والاهتمام، في المقابل أسهب في الحديث عن فولتير، فملأ أكثر من “50” صفحة . أما الفيلسوف “برترندرسل” فقد عده الفيلسوف –الانجليزي- الأكبر، والحكيم الأخطر على الإطلاق، وأعمق المفكرين في العصر الحاضر.
.
.