ما أن وضع “داروين” نظريته وأخرجها للناس حتى تبناها عدد من الفلاسفة والمفكرين، وأخذوا يطبقونها على أبحاثهم وفلسفاتهم، أمثال “فولتير” الذي طبقها على عادات ونفسيات الشعوب والحضارات البشرية ، وفق منهج فلسفي خاص سماه “فلسفة التاريخ الإنساني العام”، وهو يقضي بأن التاريخ البشري عبارة عن كفاح مستمر نحو الرقي، وجهاد دؤوب نحو السمو، وسعي حثيث في سبيل التطور الدائم. أما(هلولد) فقد دعا إلى تطبيق القوانين البيولوجية – يقصد نظرية داروين- على التاريخ وعلى المجمعات البشرية باعتبارها نوعًا من الكائنات الحية تخضع للقوانين العامة كغيرها من الموجودات، فالتاريخ البشري -بزعمه – وجه من أوجه النشوء والارتقاء وبقاؤه رهين بما هو أصلح !. أما الفيلسوف “دورنك” فقد دعا إلى دراسة التاريخ على أساس الإيمان بالأشياء الحقيقية المرئية فقط دون دراسة الأساطير، مثلًا بالروح، وهؤلاء الفلاسفة كلهم أخذوا منها –نظرية داروين- كل بحسب إيمانه بها وبحسب قدرته على تطبيقها، غير أن فيلسوفًا واحدًا ملكت النظرية عليه لبه، فأخذت منه كل مأخذ، وسيطرت على عقله وتفكيره، ذلكم هو الفيلسوف “نيتشة” الذي كان يرى أن الفضيلة هي القوة دون سواها، والضعف هو علة التقدم، فمهما كانت الأخلاق التي تبقى في معترك الحياة فهي الفضيلة وهي الخير، ومهما كانت الأخلاق الهشة التي تسقط في معترك الحياة فهي عين الرذيلة.
هكذا بدأ نيتشه منطقه- الغريب- بترتيب المقدمات على النتائج حتى ينتهي آخر الأمر إلى نتائج جد خطيرة؛ انتهت إلى نبذ المسيحية والأديان جميعًا، وذنب الأديان في نظر “نيتشة” أنها تحمل في طياتها مبادئ العطف والرحمة والإيثار. ورحم الله الشاعر:
إذا محاسني اللائي أدِلُّ بها كانت ذنوبي فَقُلْ لي كيف أعتذرُ؟
ثم يصرخ ” نيتشة”بتبني القسوة واحتضان القوة واجتناب الرحمة والتخلي عنها، فالبشرية في جميع أدوار حياتها، وفي سلم تقدمها لا تستغني عن القسوة والكبرياء ، ولا مناص لها من اجتناب الرحمة والرياء، فالتواضع واللين من شيم الضعفاء ولكن، فما بال هذه المساواة والديمقراطية التي اتجهت إليها الشعوب في التاريخ الحديث! هي – في نظر نيتشة – عقبة كؤود ومعضلة كبيرة تقف في سبيل الانتخاب الطبيعي للبقاء، أما الكثرة العددية والجموع البشرية فلا خير فيهم ما لم يكونوا أقوياء. أما المساواة التي تحد من قوة القوي، وتضيف إلى الضعيف قوة مصطنعة أبتها عليه الطبيعة أولى بالنبذ والترك. وعندما يريد “نيتشة” أن يقتدي بزعيم فإنه ينظر في التاريخ فلا يجد أجمل ولا أحفل من تاريخ بسمارك وأشباهه، الذين ساسوا الشعوب بالنار والحديد، وساموهم الخسف وجعلوهم عبيدًا، والحق أنني مررت سريعًا على سيرة بسمارك وما كتب عنه فوجدت في سيرة الرجل بعض الخير، ووجدت في حياته ما يحسن ذكره هنا، فالإنسان مهما تشيطن لا يخلو من خير ومن بعض المواقف التي يمكن الاستفادة منها، ومما يروى عنه أنه لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد السيجارة من السيجارة، فإذا افتقدها خل فكره وساء تدبيره، وكان يوما في حرب فنظر فلم يجد معه إلا سيجارة واحدة ولم يصل إلى غيرها، فأخرها إلى اللحظة التي يشتد عليها فيها الضيق ويعظم الهم، وبقى أسبوعًا كاملًا من غير سجائر، وهكذا صابرًا عنها أملا بهذه السيجارة، فلما رأى ذاك من نفسه ترك التدخين وانصرف عنه لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة، ولقد بلغ “نيتشة” من الصراحة مبلغًا كبيرًا، فصرح عن نيته في تدمير الأخلاق القائمة و تحويلها إلى أخلاق أخرى يتمتع الإنسان فيها بالقوة والذكاء، يريده إنسانًا “سوبرمان”.
في نظر”نيتشة” ثمة نوعان من الأخلاق: أخلاق نبيلة سامية الفضيلة فيها تعني الرجولة والجرأة والشجاعة، وأخلاق وضيعة اصطنعها اليهود اصطناعاً أيام ضعفهم، فهي عندهم صفات أقرب إلى الخوَر والاستكانة والذل منها إلى الأخلاق، فكأنه يريد أن يقول: “إنما العفو عند المقدرة”، فليس الذي يصبر على الضيم، ويخنع للقوة، ويستسلم للظلم عفواً، ولكن خائف ذليل. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
وقال تعالى في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)، وقال بعض المفسرين: (كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفَوا). وعظماء الناس يؤثرون العفو ما لم يجدوا فيه مفسدة لأمر من أمور الدين أو الدنيا، وقد عرف بذلك كثير من ملوك المسلمين وقادتهم، ورويت في العفو عند المقدرة أخبار تنبئ عما يملك قلب الرجل العظيم من الحلم والعفو في الخطوب الجسام، كما أُثِر من استعطاف المؤمنين في مقام العقاب ما يذهب بالحفيظة، ويوجب المغفرة.
ويذكرنا رأي “نيتشه” في اليهود برأي ماركس – اليهودي- في كتابه “المسألة اليهودية”، حيث يقول :” إن اليهود الواقعيين، يهودَ الحياة اليومية، يستغلون دينهم (مشكلة الأخلاق في اليهودية) لحجْب أهدافهم الدنيوية المكروهة والمقيتة. يقول ماركس في هذا الصدد: “ما هو العمق الدنيوي لليهودية؟ إنه الحاجة العملية، المنفعة الشخصية. وما هو الطقس الدنيوي لليهودي؟ إنه التجارة غير المشروعة؟ وما هو الإله الدنيوي لليهودي؟ إنه المال؟”.أما “سبينوزا” فيلسوف أمستردام الأكبر فحسبه أن حكماء المعبد اليهودي البرتغالي في أمستردام، مسقط رأسه أعلنوا خروجه من الدين بسبب رفضه لأفكارهم ولا سيما فكرة”شعب الله المختار”.
وقد سعى “بن غوريون” في سنواته الأخيرة لرفع ذلك الحظر، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل.