عمر الخيام شاعرٌ أديب فيلسوف كان عالما مبرزا بالرياضيات، والفلك، واللغة، والفقه، والتاريخ. بلغت شهرته الأفاق بمقطعاته الشعرية “الرباعيات” وافقه النجاح في نظمها شعرًا بالفارسية، وكُتب لها القبول فترجمت إلى اللغات العالمية؛ العربية، واللاتينية، والفرنسية، واللإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والدنمركية وغيرها. وبزغ نجم الخيام، وعرف قدره في حياته ، فقربه الرؤساء والملوك والأمراء. وكان السلطان ملكشاه السلجوقي ينزله منزلة الندماء، والخاقان شمس الملوك ببخارى يعظمه ويجلسه معه على سريره . وقد اشتُهِر الخيامُ بالشعر والأدب وعرف بهما، أضعاف شهرته بعلمي الرياضيات والفلك، علماً بأن تضلعه بهما يفوق نبوغه بالشعر والأدب. وقد انعكس هذا على اهتمام الناس به وبإرثه العلمي والمعرفي، فأورث إقبال الناس على شعره وأدبه، وتسابق الشعراء والأدباء على ترجمته ؛دون النظر إلى علومه الأخرى. ومن أشهر هؤلاء المترجمين وأمثلهم – في رأيي- الشاعر المصري د أحمد رامي، قال الناقد العراقي د علي عباس علوان : “إن أكثر الترجمات شاعرية هي ترجمة الشاعر الكبير أحمد رامي، لكنها قصرت الدقة في نقل المعنى الخيامي، لكن شاعرية الصافي النجفي كانت أقل من شاعرية رامي من حيث العذوبة والرقة وجماليات القصيدة العربية. وتبقى ترجمة أحمد حامد الصراف أدق وأشمل وأوفى من كل الترجمات التي قدمت باللغة العربية، لكنها نثرية وتحمل عيوب النثر وقصر الموسيقى”، وقد يشارك د أحمد رامي في صفة الشاعرية أحمد زكي “أبو شادي”، وكلاهما من مدرسة أبوللو الشعرية، والبستاني، والأستاذ محمد السباعي وترجمته المنظومة عن الإنجليزية، والشاعر جميل صدقي الزهاوي ومختاراته التي انتقاها وترجمها إلى العربية نثراً. ثم أتبعها بترجمة شعرية، وثمة ترجمة شعرية قام بها الأديب الساخر إبراهيم عبد القادر المازني، ونشر بعضها في مجلة “الرجاء” ، ونشر بعضها الآخر في الجزء الثاني من كتاب “ديوان المازني”.كذلك فعل الأستاذ حامد أحمد الصراف حين ترجمها-الرباعيات- ووضعها في كتابه ” عمر الخيام”. وقد تميزت ترجمة الصراف –بحسب الناقد علوان- بأنها أدق وأشمل وأوفى من كل الترجمات التي قدمت باللغة العربية لكنها نثرية وتحمل عيوب النثر وقصر الموسيقى”. أما العقاد الأديب الكبير فلم نعرف له عناية من قريب أو بعيد بالرباعيات، لذا لم يصنف لها كتابًا مستقلًا، وإنما هي تعليقات على بعض ما كتب صديقه المازني كالحقيقة والمجاز، والتجديد والتقليد، قال: وقد طاب للمازني منذ سنوات أن يدأب على الاستخفاف بعمله وبجدواه، فأنكر على نفسه الشاعرية، وأنكر غناء ما يكتب وينظم، وقد غالطته أحيانًا فقلت له إن هذه البدعة منه ضرب من المكر الحسن كأنه أراد أن ينزل عن مكانه ليجلسه عليه الناس، ولكنه قال في حصاد الهشيم: (واعلم أنك إذا أنزلت نفسك دون المنزلة التي تستحقها لم يرفعك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عما هو دونها أيضا)، فالأرجح أنني غالطته وأن حقيقة الأمر أن المازني يستخف بعلمه وبغير عمله أحيانًا لأنه يستصغر حياة الإنسان في جانب آماد الخلود ومصائر الأقدار ولأنه يقيس ما عمل بما أراد أن آخرون. وقد هون الخطب على نفسه بسليقة فيه، وهي أنه استطاع أن يقسم (أنانيته) قسمين متلازمين، يسخط أحدهما فيتناوله الآخر بالعبث والتعزية، ويشمخ الشامخ منهما فيغض منه المطمئن والوادع”، وقد فكرت مليًا في عدم اهتمام العقاد بترجمة الرباعيات، وذلك أنه ترك المجال لمن هو أفضل منه وأبرع في هذا المجال، وذلك الرجل هو صديقه الحميم”المازني” -وقد قلت سابقا أن شيخ العربية وأستاذها في العصور المتأخرة محمود محمد شاكر ترك ميدان الشعر لصديقه الشاعر الفحل محمود إسماعيل- يقول العقاد في ذلك : “إن المازني قد امتاز بملكة أخرى كاد أن يتفرد بها في الآداب العالمية، وهي ملكة الترجمة المطبوعة أو ما يصح أن نسميه عبقرية الترجمة لأنه استطاع بترجمته أن يرد الكلام أصيلاً كأنه لم يكتب قبل ذلك بلغة أخرى ولم يصدر عن قريحة سابقة”.
تلك ترجمات طبعت واطلع عليها الناس، وثمة ترجمات أخرى لم تر النور ولم يكتب لها الانتشار والظهور، أو على أقل تقدير لم أطلع عليها ، ومنها: ترجمة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وترجمة الأستاذ محمد الهاشمي صاحب مجلة “اليقين” البغدادية. ومحمد السباعي،صاحب الترجمات البارعة لروايات الأديب تشارلز ديكنز (1812-1870). أما آخر الترجمات المنظومة لرباعيات الخيام -بحسب علمي- فكانت من نصيب الشاعر الإماراتي محمد صالح القرق، وهذا الأخير له قصة طريفة مع الرباعيات، اطلعت بنفسي على بعض وقائعها، لذا يحسن أن أفرد لها كلمة مستقلة للحق والتاريخ!
محمد صالح القرق “1936 – 2020” . أديب وشاعر إماراتي من مواليد دبي، تعلم تعلما ذاتيا، حيث لم تكن المدارس متوفرة في دبي آنذاك، فكان يختلف إلى الكتاتيب، وكانت له عناية في اقتناء الكتب، فتوفر له من ذلك مكتبة غنية بأمهات الكتب والمراجع والمصادر،وكان مدمنا على حضور اللقاءات الأدبية والمحاضرات العلمية ، واتصل بعدد من الأدباء وأعلام الفكر ودهاقنة القصة ،أمثال نجيب محفوظ، وحسين نصار، ومصطفى محمود ، وأنور الجندي، غير أن الروائي القاص د نجيب الكيلاني كان أكثرهم اتصالا به ،وأقربهم إلى نفسه وقلبه –كما حدثني- القرق بنفسه. عاش القرق مع الخيام أعوامًا لا يعلم عددها إلا الله، مما ولد عشقًا من نوع خاص، جعله يمني النفس دائمًا بتحقيق حلمه، وأي حلم أجمل وأعذب من ترجمة الخيام!! وظل الحلم يداعب خياله، والأمل يراود أحلامه زمنًا طويلًا، وظلا يراودانه ردحًا من الزمن يدنوان تارة وينفران تارة، حتى وقعا في شباكه ، وأبى أن يرسلهما إلا وهما حقيقة في كتاب، ومهما نسيت لا أنسى صورة “القرق” بمشيته المتميزة التي تشعرك بأنه ماضٍ لإنجاز “المهمة الصعبة” أو ساعٍ لتحقيق “المهمة المستحيلة”، لا يلوي على شيء، ولا يتأثر بشيء، إنما هو هدف يريد تحقيقه، وغرض يريد إنجازه. كان يقدُمُ بأوراق يتأبطها ، يجوب ممرات مبنى إدارة الإفتاء والبحوث ومكاتبها بحثًًا عن الأستاذ اللغوي والشاعر الأديب “القاضي عمر السالك بن الشيخ سيدي محمد بن عمر السالك آل ربيعة،-وكانت بينهما صداقة طيبة- ليطلعه على ما جد من نظمه لمقطوعات الرباعيات، وكنت أشهد أحيانًا ما يعرضه القرق على الأستاذ السالك بغية الإفادة والإعادة ثم الإجازة ، فإذا وافق السالك ورضي عما سمع اطمأن القرق ورضي عما كتب ، وكان القرق من فرط ثقته بعلم الأستاذ وشاعريته وأدبه يترك له الحبل على الغارب، فإذا ما قرر تغيير كلمة، أو تصحيح بيت، أو حتى إعادة صياغته كاملا فلا يجد من القرق إلا موافقة تامة، وليس إلا –كما قلنا- إيمانًا به وبعلمه ومقدرته!.ولا غرو في ذلك فالقرق ليس بدعًا من الأدباء في ذلك ! وبعد عمل جاد، وصنع مستجاد ،وصبر وتريث، ومعاناة وتلبث، صدر الكتاب، وفرح به القراء والكتاب والصحاب، أما أنا ففزعت من فوري إلى المقدمة أقرؤها وأتفحصها كلمة كلمة لعل وعسى أن أقع على شكر أو ثناء،أو إسداء معروف أو دعاء، فلم أوفق إلى ذلك رغم ما بذلت من حيلة ودهاء، وخشيت أنني أخطات القراءة أو الفهم، ورجعت ثانية وثالثة أسدد السهم، فكان نصيبهما نصيب المرة الأولى، هنالك تحققت خلوّ الكتاب. وفكرت مليا في عمل دراسة نقدية لعمل القرق مقارنة مع من سبقوه والإشارة إلى ذلك بشيء من التفصيل وضرب الأمثلة، غير أن الأستاذ القاضي السالك بحيائه المعهود وهضمه لنفسه حال دون ذلك، وهو فيما أعلم لم يفصح عن عمله المهم في إنجاح مشروع القرق -ترجمة الرباعيات-ولم يغضب لعدم ذكر اسمه، وقد سألته عن ذلك فالتمس العذر لأبي مالك،ولم يعد ذلك من المهالك. وقد مر معنا قريبا تعليق العقاد على صديقه المازني. فرحمة الله على أبي فهد ، وحفظ الله لنا الأستاذ الشيخ القاضي أبا مصطفى ومتعنا به وبعلومه في الدارين.
أما أستاذنا وشيخنا “السالك” –وقتها- فكان رئيسا لقسم البحوث، وكان القسم يومها يعج بالأدباء والشعراء ، وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر علمين كبيرين وأستاذين جليلين: الأستاذ اللغوي الحجة الشيخ محمد محمود المصطفى-مفتي المالكية- وهو بالمناسبة أستاذي وشيخي وإلى الآن ما زلت أتمتع بعلمه وصحبته وأخوته، وهو على علمه وفقهه ومعرفته بلغ الغاية في التواضع لتلامذته وطلابه، فإذا ما تزين به مجلسٌ ما ظن من لا يعرفه أنه تلميذ وطالب علم! والأستاذ الثاني الشاعر الفحل الأستاذ الأديب عبد الله المعلى الذي يذكرك بشعراء الجاهلية ارتجالا ولغة وأسلوبا وجزالة ونطقا، وقد شغل – من بعد- منصب وزير الثقافة في موريتانيا. والشاعر “المعلى” اسم على مسمى، فلم أر في حياتي شاعرا مثله أو قريبا منه يحفظ الشعر ويرتجله ارتجالا ، فلله دره من شاعر وأديب.
هذه كلمة موجزة اقتضتها الأمانة العلمية، وتطلبتها الشهادة الأدبية على واقع عشته بنفسي، خشيت أن أسأل عنه يوم أدخل رمسي، وما أقرب اليوم من الأمس.
فعلا دكتور أحمد، الرباعيات من الأعمال الخالدة، وكلامك عن ترجماتها كلام طيب لأول مرة أعرفه، ولكنك يا دكتور بعد ذلك لم تخبرنا برأيك ” أنت” أي الترجمات أفضل؟
فالرجاء التكرم علينا برأيك
حياك الله أخي عبدالله..
أنا لم أطلع على كل ترجمات” الرباعيات” كما ذكرت في المقال، لا سيما نظمي المازني والجواهري، وبحسب ما اطلعت عليه أرجح نظم أحمد رامي وترجمته، وهذ نفسها الكلمات التي غنتها أم كلثوم، ويبقى لكلٍّ ذوقه الخاص!!
عزيزي المتابع:
سؤالك هذا من الأسئلة الإشكالية والمشكلة في آن، وللجواب عليه أحتاج أن أبحث في المراجع ساعات طوالا قد تمتد إلى أيام، فمن السهل أن أجيبك بنعم أولا، بل من السهل أن أجيبك بكلمة: “نعم”، الخيام رمي بالزندقة، -وقد قيل-، غير أن أمانة الكلمة التي حملتها تمنعني من ذلك..
وإذا كنت أميل إلى رد هذه التهمة عن الخيام ودحض هذا الافتراء فسيتوجب علي أن أخوض في دراسة تاريخية نقدية استقصائية..
وهذا تماما ما قررت فعله، ووزر ذلك عليك..
فعلا دكتور أحمد، الرباعيات من الأعمال الخالدة، وكلامك عن ترجماتها كلام طيب لأول مرة أعرفه، ولكنك يا دكتور بعد ذلك لم تخبرنا برأيك ” أنت” أي الترجمات أفضل؟
فالرجاء التكرم علينا برأيك
حياك الله أخي عبدالله..
أنا لم أطلع على كل ترجمات” الرباعيات” كما ذكرت في المقال، لا سيما نظمي المازني والجواهري، وبحسب ما اطلعت عليه أرجح نظم أحمد رامي وترجمته، وهذ نفسها الكلمات التي غنتها أم كلثوم، ويبقى لكلٍّ ذوقه الخاص!!
أخي الدكتور أحمد
سلم الله قلمك..
ما صحة ما يروى عن انحراف الخيام العقدي؟
عزيزي المتابع:
سؤالك هذا من الأسئلة الإشكالية والمشكلة في آن، وللجواب عليه أحتاج أن أبحث في المراجع ساعات طوالا قد تمتد إلى أيام، فمن السهل أن أجيبك بنعم أولا، بل من السهل أن أجيبك بكلمة: “نعم”، الخيام رمي بالزندقة، -وقد قيل-، غير أن أمانة الكلمة التي حملتها تمنعني من ذلك..
وإذا كنت أميل إلى رد هذه التهمة عن الخيام ودحض هذا الافتراء فسيتوجب علي أن أخوض في دراسة تاريخية نقدية استقصائية..
وهذا تماما ما قررت فعله، ووزر ذلك عليك..