Uncategorized

 “عيون في العتمة” للكاتب الفلسطيني جمال الخطيب قراءة:  كنانة عيسى      –      الإمارات

كنانة عيسى

                                    ‏مرارة الواقع المعاش ومنطقية الرمز

 ‏يقول  الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، كرم الله وجهه، خليفة المسلمين الرابع، المتوفى في  ٤٠ هجرية: “المرء مخبوء تحت لسانه”.

ونطرح ذلك السؤال على أنفسنا في هذا المصاب الكبير، في كارثة الانتماء الوجداني الإنساني القلق، حول متغيرات قدرية نعجز أمام قسوتها، كيف يمكن لكاتب متمكن ثل جمال الخطيب أن يجيد الإقامة في النص، فيجعله ذا أبعاد حية تتقمص التأويل الأدبي في اغتراب وتمرد،   و تجسد الواقع المرير كثورة نفسية  مدوية، ‏فتتنفس الحقيقة الموجعة في سرد أشبه بتقمص لإدراك حاد لا يخطئ لتؤثث خيال القارئ المشبع بقهر واقع محبط مدمر ومؤلم يعايشه بمرارة العجز ونقمة الضعف برموز من لحم ودم تشارك في سرد المأساة التي قد بدأت للتو ولن تنتهي لوقت طويل، فيستفز إنسانيته الحبيسة في أبعاد المكان والزمان، الخاضعين لأوجاع عربية سورية كممها تخاذل الآخر و لا انتماؤه، فيطلق العنان لعروبته النازفة لتنثر تناولاً شموليًا متكاملًا يقض المضاجع ويثير ما تبقى من حنقٍ عالقٍ في الحناجر، يغدو فيه السقف اللصيق بوجه الطفلة العالقة تحت الأنقاض مدخلًا رمزيًا  لكل الخيبات المعلقة في قلوب المشردين و المنكوبين، الذي لفظتهم الحروب على هامش الوجود الإنساني جوعًا وتغريبًا وقهرًا وغربةً  لتفترسهم أنياب بشرية أخرى يبدو فيها الزلزال المدمر أكثر رحمة و شفقة وعطفًا.

إن هذه الإقامة الجبرية في النص هي  بصيرة أدبية  مجتثة من معاش  قاهر، خرق ظروف المنطق والقبول وغيّر طبيعة دوغماتية الفكر الجمعي الإنساني ووعيه تجاه كارثة هذا القرن، أن تصفع قارئك لينظر نحو الحقيقة في الاتجاه المعاكس.

                                         تطويع الرمز وفلسفته

السقف الإسمنتي الصقيعي هو مدخل لعالم الأوهام الذي ترسمه طفلة سجينة تنتظر الموت، نافذة واسعة لخيالات عميقة تتدفق من الذاكرة الموقوتة، هلاوس بريئة تجبرها على التشبث ببقايا حياة لا تشبه الحياة  بل تشبه احتضارًا بمدة صلاحية  تسخر من أمل لا يحدث ومن حلم لا يتحقق ومن واقع يزداد ظلما و تعنتا. الرمز هو فلسفة البحث عن الشيء المبهم، اللامعقول الذي يغلف الحقيقة الموجعة بالدهشة واللاتصديق ورفض  وامتهان القيم الإنسانية التي تستفحل داخل كل وعي فردي، وتثير آلاف الأسئلة الوجودية بين العقيدة والاعتقاد، بين المقبول والمستهجن وبين الواقع وزيفه وبين قسوة البشر ووحشيتهم أوإنسانيتهم ورأفتهم.

السقف والحمى وقطرة المطر المثلجة أدوات ترسم المشهد لتبقيه حياً في أذهاننا.

                           الحوار  المدجج بالسوداوية القصدية

يجبرنا الخطيب على مشاركة الأبعاد المرئية الحسية  في حكاية تبدو تخيليية المذاق في بنائها الفني، من مقدمة شيقة لأزمة ذائقة تفكرية يضيئها حوار العابرين فوق الأنقاض، لحكاية ما زالت تحدث حتى الآن يتشارك قصها علينا نحن المتورطين كشهود فقدوا بصيرتهم وحولهم وقوتهم، لصوص مارقون    و تجار وأعضاء نجسون، وعمال إنقاذ عاجزون يصدّرون البؤس كاستشراف مستقبلي لرحلة عقل الراوية في المكان المنكوب المحاصر نحو نهاية محتومة لا سعادة فيها ولا رخاء كنهايات الحكايات الطفولية.

أبدع الكاتب باستخدام الحوار وزجه كمرآة تعكس جزءًا من الحقيقة بعين الضحية المنكوبة في عالمها الاسمنتي المظلم.. عالم الحقيقة المجردة من كل معيار أخلاقي، والتي تضج بأصوات العالم العلوي البائس بشروره ولا مبالاته.

                       الخاتمة المقفلة  على استشراف تحذيري

يصر الكاتب على خلق منهج رفض لخلق الصدمة،لا نرى هنا حشدًا إيجابياً يصفّق لنجاة الطفلة، ولا نسمع خطى المنقذين وتكبيراتهم، ولا أصوات آليات الجرف العالية، بل أدبًا رفيعًا مستفزًا ينبثق من الانغماس في حراك العصر المشحون بالتأزم والعنصرية واللامبالاة واللاإنسانية نحو شعب منكوب نال الجميع من روحه وأمله وحقه بالحياة، جُله تسليط الضوء على ضمائر لا تبصر النور ولا تعرف إلاّ مذاق السقوط على وحوش بشرية مضغت قلوبها  الفاسدة ووجدانها المريض في أزمة  مفعمة بـ (الآن) كديمومة تحذيرية لما سيحدث لاحقًا من تهاون وخذلان وإخفاق على المستوى الإنساني بكل  تردداته.

ورغم أن الراوية السجينة في ظلمة الإسمنت الصقيعية، كانت تنتظر قطرات المطر المعدنية المثلجة لتبقى على قيد الحياة، وتستجدي بذكريات حياتها الشريدة الرمق، وتخاطب أخيلة أشباح جثث تشاطرها (العتمة)  مناجية ذاتها الطفولية الكسيرة، فإنها ستبصر النور في النهاية متحدية قطعان الضباع بإرادة الحياة الطفلة التي تبرر كل شيء.

دام القلم المبهر.. الواثق، ومعًا في التلاحم لأجل مصابنا الكبير في وطننا الحبيب (سوريا) و حزننا العميق على فقد عوائلنا وأصدقائنا وأطفالنا و كارثتنا  التي ما تزال تحدث بكل جبروتها، الرحمة لأرواح الضحايا والمفقودين، والصبر لذويهم و الجبر لمن فقد سكنه ومأواه وأحلامه والرحمة لمن لا يزال سجين الإسمنت مصغيًا لخطوات وأصوات العابرين في انتظار رؤية السماء مرة أخرى.

وتحية من القلب لكل من كان إنسانًا في هذه الكارثة المفجعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى