مقالات

“معجم القبائل والعشائر والأُسَر العربيَّة في العراق” مرجع ثري في الأنساب

د. أحمد الزبيدي - الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 

نعمان ماهر الكنعانيّ

 

 

د. ثريَّا نعمان ماهر الكنعانيّ

 

                       ________________

تفخر المكتبة العربية بالمرجع المهم لمؤلِّفَيه: الراحل نعمان ماهر الكنعانيّ، والدكتورة ثريَّا نعمان ماهر الكنعانيّ. صدر عن مكتبة دجلة للطباعة والنشر والتوزيع/بغداد.

                    ________________

تمضي السنون وتبقى الكلمات ملء السمع والبصر والفلوات، ولا يكون ذلك إلَّا مع خروجها من ضمير حيٍّ وقلب صافٍ ونفس مشرقة سالمة من الآفات.

ها هو الشاعر الفحل والأديب الكبير نعمان ماهر الكنعانيُّ الحسنيُّ السَّامرَّائيُّ -رحمة الله عليه- بعد أن مضى يلتمس الروح والريحان والطمأنينة والأمان في ‌جوار ‌ربِّه الحنَّان، ها هو رجع كلماته الخوالد يتجدَّد، وأشعاره في جنبات الكون تتردَّد، لتبقى ما بقي الزمان والحدثان. وبمناسبة الحديث عن هذا الشاعر الكبير والعلم النحرير فإنَّني هنا أسجِّل اعترافاً، بأنِّي لا أكاد أعرف شاعراً معاصراً لم تنصفه الأقلام، وأديباً عقَّه الأدباء، وكاتباً تنكَّر له النقَّاد والكُتَّاب، وقمَّة سامقة تهيَّبها المتسلقِّون كمثل هذا الشاعر الفحل الأديب!

أمَّا معجم الأنساب الذي بين أيدينا، فإنّي لا أبالغ في المدح ولا أتزيَّد في الثناء إذا ما قلت إنَّ هذا الكتاب مفيدٌ إلى أبعد غايات الإفادة، وممتع إلى أقصى غايات الإمتاع، وأكاد أجزم بأنَّ مثله أو قريباً منه لم يتهيَّأ للدارسين أو يُتَح للمثقَّفين منذ عهد بعيد. ولست أزعم هذا غالياً أو متكثِّراً، ولست أدَّعيهِ بلا حجَّة أو برهان. بله أن أقوله إرضاءً لصاحبه أو تملُّقاً لذويه من بعده! فلُحمَتُه وسداه علم الأنساب، ومَن مِن القرَّاء يجهل مكانة هذا العلم في العلوم والحياة ؟! فإنَّ أنساب القبائل والعشائر والأسر من أهمِّ ما امتازت بهِ الأمَّة العربية في ماضيها وحاضرها، وقد ألَّف المتقدِّمون في ذلك الكتب المطوَّلة، واستقصوا فيها أنساب العرب قبيلةً قبيلة وبطنًا بطنًا وفخذًا فخذًا، ولم يتركوا صغيرةً أو كبيرةً في هذا الباب إلَّا أحصوها.

والإسلام جعل النسب من الكلِّيِّات الأساسية التي اهتم بها لما يترتَّب على النسب من أحكام جليلة مثل حرمة الزواج بالمحارم، ووجوب صلة الرحم، والميراث، ووجوب النفقة، ووجوب التناصر والموالاة. وتعلُّم النسب واجب إذا ترتَّبت عليه واجبات، فعلى كل مسلم أن يعرف محارمه ليتجنَّب الزواج بهم، وليتعهَّدهم بالصلة والرعاية. وللإمام ابن حزم كلام نفيس في هذا –”الجمهرة:” وإنْ كان الله تعالى قد حكم بأنَّ الأكرم هو الأتقى ولو أنَّه ابنُ ‌زنجيَّة لغيَّة، وأنَّ العاصي والكافر محطوطُ الدرجة ولو أنَّه ابنُ نبيِّين، فقد جعل تعارفَ الناس بأنسابهم غرضاً له تعالى فى خلقه إيَّانا شعوباً وقبائل، فوجب بذلك أنَّ علم النسب علم جليل رفيع، إذ به يكون التعارف. وقد جعل الله تعالى جزءاً منه تعلُّمه لا يسع أحداً جهلُه، وجعل تعالى جزءاً يسيراً منه فضلاً تعلُّمه يكون مَن جَهِلَهُ ناقصَ الدرجة فى الفضل. وكلُّ علم هذه صفته فهو علمٌ فاضل لا ينكر حقَّه إلَّا جاهل أو معاند.”

وفي صحيح مسلم عن عائشة،  أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- قال: ” اهجوا قريشًا، فإنَّه أشدُّ عليها من رشق بالنبل”، فأرسلَ إلى حسَّان بن ثابت، فقال: والذي بعثك بالحقِّ، لأفرينَّهم بلساني فريَ الأديم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تعجل، فإنَّ أبا بكر أعلمُ قريش بأنسابها، وإنَّ لي فيهم نسبًا، حتى يلخِّص لك نسبي»، فأتاه حسَّان ثم رجع، فقال: يا رسول الله، قد لخَّص لي نسبك، والذي بعثك بالحقِّ لأسلَّنَّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين.

وُلِد نعمان ماهر الكنعانيُّ سنة 1919في مدينة سُرَّ من رأى “سامراء” أو كما كانت تسمَّى قديماً (مدينة العسكر)، وهي مدينة بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة، بناها الخليفة المعتصم ونزلها في سنة 221. ولمَّا عمرت ‌سامرَّاء وكملت واتَّسق خيرها واحتفلت، سُمِّيت (سرورُ مَن رأى) ثمَّ اختصرت فقيل (سُرَّ من رأى).

وهو من أسرة آل ماهر الحَسَنيَّة، فهو بهذا من الأشراف، وهو ضابطٌ فارس، ووكيل أسبق لوزارة الثقافة والإرشاد العراقيَّة، وأديبٌ واسع الاطلاع، ولُغَويٌّ طويل الباع، ومترجم متمكِّن، وشاعرٌ  فارس فحل، أصدر أكثر من عشرين كتاباً اشتملت على دواوين شعر، ومختارات شعرية، ودراسات أدبية وتاريخية، وقصص مترجمة وغير ذلك. ولو لم يكن له إلَّا كتاب “معجم القبائل” لكان حسبه، وصار فيه من المبرِّزين والسابقين.

أهدي لمجلسه الكريـم وإنَّــما

   أهدي له ما حزتُ من نعمائه

 كالبحر يمطره السَّحاب وما لَهُ

   فضلٌ عليـه لأنَّه من مائــــه

 سوَّد صفحات كتابه  هذا عام 1990 في عقدين من الزمن وزيادة .فهو بهذا يشبه الإمامَين ابن عبد البرِّ حينما ألَّف كتابه “التمهيد” في أكثر من ثلاثين سنة كما يدلُّ عليه قوله فيه:

     سَمِيْرُ ‌فُؤَادِي مُذْ ثَلَاثينَ حِجَّةً

   وَصَيْقَلُ ذِهْنِي وَالمُفَرِّجُ عَنْ هَمِّي

     بَسَطْـتُ لَكُم فِيْهِ كَـلَامَ نَبِيِّكُـم

   بِمَــــــا فِي مَعَانِيــهِ مِنَ الفِقْـهِ وَالعِـــلْمِ

           وَفِيْهِ مِنَ الآثَارِ مَا يُقْتَدَى بِــهِ

      إِلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَيَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ

وابن حجر الذي ألَّف كتابه “فتح الباري” أيضا في ربع قرن، و الفيلسوف المعاصر عبد الوهاب المسيري الذي ألَّف  كتابه “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” في ربع قرن.

غير أن مسوَّدة كتابه ظلَّت رهينة المحبسين؛ الأدراج، والنسيان ثلاثة عقود، وكأنَّ لله –سبحانه- حكمة في الثلاثة العقود.  وها نحن اليوم نزفُّ إلى القرَّاء بشرى صدور الكتاب، ونحتفي بصدوره، ونحتفل بشذراته وشذوره. والذي قام على إنضاج المشروع وإنجاحه ابنته الصغرى عمراً، الكبيرة علماً، الأديبة والشاعرة أستاذة طبِّ العيون وجراحتها “ثريَّا” الكنعاني التي شاركت في تأليف الكتاب وبذلت فيه جهداً مشكوراً، لم يحملها على ذلك إلَّا وفاؤها لأبيها وحبها للعلم وشغفها بالحقيقة. وهنا كلمة نقولها: لو يَسَّر الله لكلِّ شاعرٍ أو كاتبٍ أو عالمٍ ابنةً وَفِيَّةً، بأبيها حفيَّة، تترجمه للناس أحاديثَ وأخبارًا وأعمالًا -كما يسَّر الله للراحل- لما أضلَّت العربية مَجْدَها ، ولما تَفلَّتَ أدبُها، ولما خسرت مكانتها!

لقد حشد المؤلِّفان في هذا المعجم قبائلَ العراق وعشائرَها وفروعَها وأسرَها على قدر ما أُتيح لهُما الاطلاع على مصادر ومراجع، فقد رجعا إلى ما يربو على المئة من كتب التاريخ والأنساب والتراجم، فضلاً عمَّا حصلا عليه شفاهاً أو خطِّيَّاً من شيوخ العشائر أو نسَّابيها أو ذوي الخبرة فيها، ولم يُقصِّرا في تحرِّي أصول العشائر المعاصرة وربط نسبها بالقبائل القديمة، ثم مقابلة ما هو محفوظ في صدور الرجال بما في بطون المراجع القديمة، ولا يخالجني شكٌّ في أنَّ الجهد المبذول في جمع مادة هذا الكتاب وتهذيبها وتدقيقها جهد صادق يدلُّ على التجرُّد الخالص في طلب العلم والمعرفة، وعلى السعي المتأنِّي والصادق إلى الحقيقة، وعلى إنفاد الوقت في سبيل النفاذ في إدراك الحقائق، وعلى الصبر الشاقِّ في معاناة التنقيب بلا كلل ولا ملل. ولا أظنَّ أنَّ القارئ العربي منذ سنوات طوال تسنَّى له قراءة كتابٍ تناولَ علم الأنساب في حياتنا المعاصرة، بذل فيه صاحبه من الوقت والجهد والأناة ما بذل الأستاذ نعمان ماهر والدكتورة ثريَّا في هذا المعجم. لذا فليست بي حاجة لأن أقول إنَّه كتابٌ يُقرأ من ألفِه إلى يائه لما فيه من فوائد تجاوزت علم الأنساب إلى غيره من علوم اللغة والأدب والتاريخ.

إنَّ التراث الَّذي خلَّفه الأستاذ نعمان ماهر الكنعانيّ للمكتبة العربية عامَّة، والعراقية خاصَّة، قد جعله الله أمانة ثقيلة بين يدي بناته وأبنائه، وإنَّ الدكتورة ثريَّا تؤدِّي اليوم مهمَّة إظهار جزء منه وإنجازه، أمَّا الأمانة الكاملة فنرجو أن لا ينتقص شيء منها، ونأمل أن يجد الناسُ بين أيديهم غدًا أو بعد غدٍ كلَّ ما كتبه الكنعانيّ حيًّا حاضرًا، يانعاً ناضراً، لم يَضِعْ منه شيء، وكذلك يجد النقاد سبيلَهم إلى دراسة شاعرنا من قريب، وتقديره والحكم إمَّا له وإمَّا عليه”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى