
د. ثريَّا نعمان ماهر
في لفتة وفاء طيِّبة نشر الدُّكتور المفضال أحمد الزُّبيديُّ استعراضاً لكتابنا “معجم القبائل والعشائر والأُسَر العربيَّة في العراق” الصَّادر حديثاً عن مكتبة دجلة في بغداد وعمَّان.
وقد جاء استعراضه موجزاً من غير قصور ومفصَّلاً من غير قشور، بسط فيه الكلام وبسَّطه وجزل من التَّقريظ وأجزله فجاء قوله عفواً دون تكلِّف أو عضل، وإنَّما القول بمخارجه وبأهله الَّذين يعنون به. والرَّجل معروف لقرَّائه بما يمتلك من فطنة الكاتب الَّتي تعينه على اختيار الموضوعات المهمَّة وسبر غورها متَّكئاً على عصا الشغف بالمعرفة. ولعلَّ هذا كان أحد الأسباب الَّتي دعته لتقديم شهادته في معجمنا الَّذي جاء نشره في وقت يحارب فيه العراق العربيُّ عُجمةً تبري وتفري بلا هوادة تريد أن تطبق عليه، أو ربَّما كان دافعه إلى الكتابة أنَّه وقف على الخطر المحدق بجيل من النَّشء يُخشى عليه أن يفقد بوصلته ويضيِّع موقعه على الخريطة وهو يترعرع في منفىً قسريّ أو اختياريّ.
كان الدُّكتور الزُّبيديّ قد دعاني من قبلُ للكتابة في “البعد المفتوح” غير أنَّي اكتفيت بمتابعة ما ينشره فيها منذ مَطالعِه، ويبدو لي أنَّه اختطَّ لنفسه نهجاً وأخذ على قلمه عهداً بالانحياز التامّ للحقِّ مدركاً أنَّ زمننا زمنُ آفاتٍ وجوائحَ غيرِ مأمونات وإذا أحاطت بالفضل آفةٌ لم يرجِع إلى بقيَّة، لذا تراه يسلك مسالك شائكة للانتصاف لمن لم ينصفه التَّاريخ، بحسب حكمه، أو ليعيد لكاتبٍ حقَّاً يحسبه قد سُلِب. من هنا تجده ينافح عن أبي نواس مُظهراً ما خفي من شخصيَّته وعلمه الَّذي يجهله أكثر الناس فيعرِّفنا أنَّه قرأ القرآن على أحد أبرز القرَّاء العشرة ” يعقوب بن إسحق الحضرمي” وأجازه يعقوب وشهد له بأنَّه أقرأُ أهل البصرة، وأنَّه كان يعرف ناسخَ القرآن ومنسوخَه، مُحْكَمَهُ ومُتشابِهَهُ، وكانت له معرفة بطرق الحديث؛ ثمَّ تلفيه يدفع جنفاً عن فقه ابن حزم ويلتمس له العذر مع اعترافه بعنف عبارته وشدَّة إشارته وسوء طويَّته. وعندما تخلو إحدى ترجمات رباعيَّات الخيَّام من ذكر عالم جليل كانت له يد بيضاء في أن ترى التَّرجمةُ النورَ يهرول الزُّبيديُّ ليُنزل النَّاس منازلهم ولينتصف للأمانة العلميَّة. وتأخذه الغيرة على شهر رجب إذ يرى العجبَ في تجاسر بعض من لم يتفقَّهوا في الدِّين على نشر الأحاديث الموضوعة عن صيام الشَّهر وقيامه، فيكتب في ذلك ينبِّه النَّاس ويرفع الالتباس. فهذا بعض ما وقفت عليه من جهد الرَّجل وغرسه، وأحسب أنَّه إذ غرسَ سقى.
وقد لفت نظري أنَّ كثيراً من التعليقات على ما كُتب عن المعجم جاءت من أهلنا في فلسطين الأبيَّة، وكانت طليَّة تفيض حلاوة، وفيَّة تنضح تهذيباً. وبين فلسطين ونعمان ماهر الكنعانيّ، مؤلِّف معجم القبائل، حبلُ وتينٍ لم ينقطع منذ أن كان واحداً من ضبَّاط الجيش العراقيّ الذين ما توانَوا عن نصرتها وأجابوا صرختها (بالقلوب العنيداتِ وبالأنفس الشِّداد السِّماحِ) يوم تواطأ عليها بنو صهيون وزعامات الغرب فاستجابت زعامات العرب، وقد شغل الكنعانيُّ موقع ضابط ركن خطِّ المواصلات وضابط ركن استخبارات القيادة العراقيَّة العامَّة في حرب عام 1948 وكان ضمن القطعات العاملة في فلسطين مدَّة الحرب والهدنة. وفي وصف ضيعة فلسطين يقول في قصيدته “صفعة الخُسر” الَّتي نظمها في كانون الأوَّل عام 1948:
يا فلسطينُ يا سِجلَّ الضَّحايا
والضِّراب المستقتل المِسماحِ
لا تــهوني عـزماً وإن طالَ رِزءٌ
كـلُّ لـيـلٍ مــصيــرُه لــصبــاحِ
أوسِعي النَّازلاتِ صبراً وصوني
آهةَ الخُسر وابسمي للجراحِ
***
صفعةَ الخُسرِ ما عدِمْنا (البطولا
تِ) فمـهلاً وأقصِـري من جـماحِ
ستولِّي هــذي الزَّعانــفُ يوماً
وتجيء الشُّـعـوبُ بالإصــبــاحِ
ويعادُ النِّضال أقسى وأدمى
فيرى الحقُّ أيَّ سامي أضاحي
ولعلَّ ما تركه الكنعانيُّ من مذكِّرات عن حرب 1948 يجد طريقه إلى يدي القارىء في يوم غير بعيد؛ وما دامت الحرِّيَّة لا تشيخ فإنَّ قضيَّة فلسطين لن تشيخ.
وأمَّا مجلَّة “البعد المفتوح” فقد سدَّد القائمون عليها وقاربوا إذ اختاروا ألَّا يحصروها في بعد واحد، لا ثالث ولا رابع، لتبقى نوافذها مفتوحة على كثير ممَّا هو ضالع في حياتنا ووجداننا في زمن صدىء وخيم على العربيَّة والعروبة والثَّقافة والقيم، وعسى أن تبقى صوتًاً شجاعًاً نواجه به طغيان الانحطاط الثقافيّ الَّذي يكاد يطمرنا لنعلم أنَّنا ما عقِمْنا ولا غاض ماؤنا.
زر الذهاب إلى الأعلى