مواصلة التأملات في كيفية فهم ما توجه به، وترشد إليه من دلالات علمية موضوعية الفقرة: “…… وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ …..”، من الآية القرآنية الكريمة: “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: ٢٨)”.
في إطار التأمل في ما توجه إليه وترشد به هذه الفقرة من الآية الكريمة (البقرة: ٢٨)، ذكرنا في الحلقة (تأملات – ٨) خلاصة ما استشرفناه من توجيهات وإرشادات ذات إشارات علمية بشأن سعينا للوقوف على فحوى ما تتضمنه تلك الإشارات. ولإشراك الأخوة المتابعين في عملية الاستشراف تلك، ذكرنا بعض المرتكزات الموضوعية التي نعتقد بأهميتها لمساعدة المرء على تتبع المراحل التي مرت بها نشأة الحياة بالنسبة للإنسان، باعتباره مثالاً للكائنات الحية، على سطح كوكب الأرض، ابتداءً من حالة العدم؛ وقد عرَّفنا حالة العدم بكونها الحالة التي لم يكن فيها الإنسان (كمثال للكائن الحي) شيئاً مشخصاً، سواءً أكان ميتاً أو حياً؛ ثم ذكرنا بعض مرتكزات التوجيه التي نعتقد بصلاحيتها لمساعدة المرء على تتبع خطوات عملية إيجاد (خلق) الكائنات الحية، بإرادة الله الخالق، ومشيئته سبحانه وتعالى، ومن ضمنها الاستعانة بمقومات مفهوم “الهندسة العكسية” التي تستند على تفكيك كيان الكائن الحي (الإنسان كامل البناء الجسماني، على سبيل المثال) إلى مكوناته الابتدائية من المواد، ومن ثمَّ محاولة معرفة منشأ تلك المكونات، والكيفية التي نشأت بها على سطح كوكب الأرض، لتصبح مواداً مناسبة لبناء الجسم أو الجسد المادي للشيء الذي سيصبح كائناً حياً عندما ينفخ فيه خالقه، الله سبحانه وتعالى، الروح من أمره. واستناداً ألى هذا المبدأ، ينبغي على المرء من ذوي الألباب، المُتَفَكِّر في ما خلق الله: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (آل-عمران: ١٩٠)؛ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل-عمران: ١٩١)؛ وابتعد عن التفكير في ذات الله الخالق؛ “تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق”، استحضار كافة الشواهد المادية التي أوجدها الله الخالق سبحانه وتعالى في إطار الأحداث الكونية، والظواهر الفيزيائية التي خضع لتأثيرها كوكب الأرض (جوفه، وسطحه، وما علاه/سماؤه)، لاستشراف الكيفية التي أوجد الله سبحانه وتعالى، بها المواد الأولية التي سادت على سطحه لأزمنة طويلة، وفي جوفه، وغلافه الغازي، وذلك من خلال تتبع ما تشير إليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة من إرشادات توجيهية في ما يتصل بنشأة الحياة على سطح كوكب الأرض.
وفي هذا السياق سوف نحاول تقديم تصور علمي موضوعي نجيب به على عدد من الأسئلة ذات العلاقة بالكيفية التي نشأت بها المواد الكيميائية المركبة (معقدة التركيب البنائي المادي، والهيكلي) لبناء الأجسام المادية للمخلوفات، التي ستتحول فيما بعد، عندما ينفخ فيها الله الخالق الروح من أمره، إلى كائنات حية تَعمرُ الأرض.
وسوف نستعين في ذلك، بتوجيهات مبدأ الهندسة العكسية لمعرفة ما يلي:-
* نوع المواد (المكونات المادية) التي تتركب منها أجسام الكائنات الحية على سطح كوكب الأرض؟ ومن أين أتت (ما مصدرها)، وما هي الحالة التي كانت عليها قبل خضوعها للتحولات التي أنتجت منها مركبات عضوية حيوية لبناء الأجسام المادية للكائنات؟
* ما هي الظروف البيئية التي طرأت على البدايات المادية للوصول إلى الحالة التي تؤهلها لتصبح مركبات صالحة لبناء الأجسام المادية للكائنات الحية، بعد نفخ الروح فيها من الله سبحانه وتعالى؟
للإجابة على هذه التساؤلات بخصوص نشاة الأحياء (الأحياء: النباتية، والحيوانية بما فيها الطيور كافة) على سطح كوكب الأرض، يجب أن يدرك المرء أهمية الأحداث الكونية التي تعرض لها كوكب الأرض (جوفه، وسطحه، وما علاه/ غلافه الغازي)، فما هي تلك الأحداث التي أثرت على مكونات البيئة التي سادت على كوكب الأرض ما أدى إلى نشأة المواد الكيميائية العضوية والحيوية لبناء الأجسام المادية للكائنات التي ستنفخ فيها الروح، لتصبح كائنات حية؟؟
للإجابة على هذه التساؤلات سوف نبدأ بالإجابة على السؤال التالي:-
١- ما هي المواد الأساسية لبناء أجسام الكائنات الحية، التي نستنتجها من نتائج التحليل الكيميائي الدقيق لتلك الأجسام؟
الجواب: تتركب كافة الأجسام المادية للكائنات الحية على سطح كوكب الأرض من المواد الكيميائية العضوية/الحيوية؛ فما هي المكونات البسيطة التي نشأت منها تلك المواد؟؟ في إطار هذه الحلقة من حلقات التَّفَكُّر في خلق الله (بالنسبة لنشاة الأجسام الحية، جسم الإنسان كمثال)، نود توضيح ما يلي:-
تتركب أجسام كافة الكائنات الحية الراقية (المملكة الحيوانية بأنواعها، بما فيها الطيور) من ثلاثة أنواع رئيسة من المركبات الكيميائية الحيوية التي تشمل:-
١- مكونات بناء اللحم، وهذه تنشأ من الأحماض الأمينية البسيطة، التي تجرى عليها عمليات اتحاد، وتَضاعُف تؤدي إلى بناء البروتينات باختلاف أنواعها.
٢- مكونات بناء العظم (فوسفات الكالسيوم)،
٣- مكونات بناء الشحم (الدسم أو الدهن أو الزيت) التي تنشأ من الأحماض الكربوكسيلية، باختلاف أنواعها.
٤- القواعد الأساسية الأربعة، وهي الوحدات الرئيسة، إضافة إلى وحدات السكر الأحادي (الريبوز) وفوسفات الكالسيوم، لبناء جدايل وضفاير حفظ الصفات الوراثية (أل: DNA)؛ وهي إضافة إلى ذلك تمثل الفرشة التي يتم عليها بناء البروتينات من وحدات الأحماض الأمينية. وبمعرفة هذه المركبات لبناء الأجسام الحيًّة، يتبادر إلى الذهن، وفقاً لمبدأ الهندسة العكسية، الأسئلة التالية:-
* ما هي المواد الأولية اللازمة لبناء تلك المركبات على سطح كوكب الأرض، ومن أين جاءت؟
* ما هي الظروف البيئية التي أثرت عليها، بما يؤدي إلى أن تصبح وحدات لبناء أجسام لكائنات ستصبح حيةً، بعد نفخ الروح فيها من الله الخالق، سبحانه وتعالى؟
لا شك في أن الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها مما سيصادفنا من تساؤلات في إطار عملية تعرفنا على كيفية نشأة الأجسام المادية للكائنات الحية على سطح كوكب الأرض، تتطلب منا معرفة الكيفية التي نشأ بها كوكب الأرض، وتتبع الظروف التي مر بها وصولاً إلى مرحلة استقباله للنطفة الأولى لنشأة الكائن الحي.
أولاً: في هذه الحلقة نقدم تصورنا لنشأة كوكب الأرض.
تفيدنا الآية: “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء: ٣٠)” أن نشأة الأرض قد جاءت إثر حدوث الفتق العظيم، الذي يُعد بمثابة بدء خلق السماوات والأرض. والسؤال التالي، في هذا السياق، هو: ما هي المادة التي نشأ منها كوكب الأرض؟ الإجابة على هذا السؤال تقدمه الآية القرآنية الكريمة: “ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فُصِّلت: ١١) التي تؤكد أن نتيجة الفتق العظيم قد أوجدت المادة الأولى (المادة الأساس لنشاة كوكب الأرض)؛ فالدخان الذي تشير إليه الآية الكريمة، كما نعرفه من المعطيات العلمية المؤكدة، هو عبارة عن خليط من أجسام مادية صلبة متناهية الصِّغر، وأبخرة، وغازات؛ ومن هذا الخليط من المواد نشأ كوكب الأرض.
* فكيف كانت حالته إثر نشأته؟
* وما هي الأحداث الكونية التي خضع لتأثيرها جوفه،
* وما هي الظروف البيئية التي سادت فوق سطحه في الحقب الزمنية المتتابعة؟
الأجوبة على هذه التساؤلات تقود المرء إلى معرفة أهمية ظاهرة البراكين والزلازل، وموجات البرق التي نشأت في جوف السُّحُب الركامية فوق سطح الأرض، حيث تَجَمُّع الغازات البركانية، والأمطار الغزيرة التي سقطت على سطح كوكب الأرض، وجلبت معها ما احتوته السحب الركامية من مركبات كيميائية كانت بمثابة البدايات لنشأة الأجسام المادية على سطح الأرض، التي تحولت بنفخ الروح فيها من الله الخالق سبحانه وتعالى، إلى كائنات حية.
سوف نواصل التعرف إلى تأثير هذه الأحداث لفهم الفقرة: “…… وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ …..”، من الآية القرآنية: “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: ٢٨)”. وللحديث بقية بإذن الله.