(الحلقة ج) مواصلة التأملات في كيفية فهم ما توجه به، وترشد إليه الفقرة: “…… وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ….”، من الآية القرآنية الكريمة: “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: ٢٨)”، من دلالات علمية موضوعية.
ذكرنا في الحلقة السابقة (الحلقة: ب) من تأملاتنا في توجيهات هذه الفقرة من الآية الكريمة وإرشاداتها أن أجسام الكائنات الحيَّة، وفق نتائج التحاليل الدقيقة، قد نشأت من تجمع عدد من المركبات الكيميائية بكيفية سمحت باستقبالها نفخة الروح من الله الخالق سبحانه وتعالى؛ أي أن حالة العدم التي عاشها الإنسان، ولم يكن فيها شيئاً، هي الفترة التي سبقت مرحلة تَجَمُّع تلك المركبات في كيانٍ مميزٍ (أو مشخصٍ)، ليصبح ذلك التَّجَمُّع شيئاً مميزاً أو مشخصاً ومجسداً، مثال ذلك: إنشاء غرفة بناء بمواصفات محددة (طول، وعرض، وارتفاع) من مجموعة حجارة بمواصفات معينة، ومواد لاصقة؛ لا يمكن للمرء أن يُطلق مسمى الغرفة على كومة الحجارة، والمواد اللاصقة إذا لم تتحول إلى البناء بالمواصفات التي تبرر تسميتها غرفة (أي أصبحت شيئاً مجسداً)، وبعد أن يتم تحديد ماهية ذلك البناء بأنه غرفة استقبال أوغرفة نوم، تصبح الغرفة شيئاً مجسداً مذكوراً؛ وهكذا الأمر بالنسبة لنشأة المخلوقات على سطح كوكب الأرض. فإن بداياتها ما هي إلا عبارة عن مواد كيميائية متفرقة، يتعذر اعتبار أنها تمثل كياناً لجسم مادي مشخص، ثم ما لبثت تلك المواد أنْ جرى تجميعها بإرادة الله الخالق وفق معايير محددة بدقة لكل نوع من أنواع المخلوقات في أُطُر ما يعرف بالنُّطَف، وعندئذٍ تصبح تجمعات تلك المواد الكيميائية أجساماً مشخصة كوحدات بناء لمختلف المخلوقات ذات الكيان المادي المجسد لاستقبال نفخة الروح من الله الخالق سبحانه وتعالى، لتتحول النُّطَف إلى مخلوقات حَيَّة، بعدما كانت في عداد الأموات.
والآن نود التعرف إلى الكيفية التي أدت بها الأحداث الكونية إلى إنتاج مواد بناء أجسام الكائنات التي ستُنفخ فيها الروح من الله الخالق سبحانه وتعالى، لتصبح كائنات حَيَّة. وبهذا الصدد سوف نحاول التَّعرف إلى إسهامات الأحداث الكونية، (البراكين، وموجات البرق، والغيوم الركامية، والتجمعات المائية، والتقلبات الحرارية على سطح الأرض) في نشأة الأجسام المادية للكائنات الحيَّة. وبداية نود التعرف إلى الحالة التي كانت عليها الكتلة المادية لكوكب الأرض إثر نشأته كأحد أفراد كواكب مجرة درب التبانة (أو طريق اللبن).
* نشأة كوكب الأرض
لا شك في أن الدخان الكوني الذي نشأ نتيجة حدوث الفتق العظيم (باعتقادي أن ذلك الفتق قد حدث في مادة الماء، باعتبار أن الماء هو المادة الأزلية الأولية في الكون)، الذي تشير إليه الآية القرآنية الكريمة (الأنبياء: ٣٠)، هو المصدر الأساس لمادة نشأة كافة كواكب المجرات الكونية. وكما أشرنا سابقاً فإن ذلك الدخان لا بد من أنه قد اشتمل على ثلاث مكونات رئيسة: غازات، وبخار ماء، وجسيمات صلبة متناهية الصِّغر. وعندما أمر الله سبحانه وتعالى، ذلك الدخان بأن يستقر في ما أمره الله به: “ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فُصِّلَت: ١١)”؛ فقد استجاب الدخان لأمر ربه الذي خلقه، فنشأت إثر ذلك السماوات السبع: أأنْتُم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَناهَا (النازعات: ٢٧)؛ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (النازعات: ٢٨)؛ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (النازعات: ٢٩)؛ وفق الإحكام الذي أرادَهُ الله سبحانه وتعالى، وتكونت الأراضي، ومن ضمنها كوكب الأرض الذي يحي عليه ويعمره بنو البشر. إذا ما تأمل المرء في ما توجه إليه، وترشد به الآيات القرآنية من سورة النازعات (٣٠ – ٣٢): “وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (النازعات: ٣٠)؛ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (النازعات: ٣١)؛ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (النازعات: ٣٢)؛ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (النازعات: ٣٣)، وركز تفكيره لاستشراف ما توجه إليه الآية (النازعات: ٣٠) سوف يستنتج أن الحالة الفيزيائية لكوكب الأرض في الفترة الزمنية الأولى لنشأته (فترة بناء السماء، البناء المُحكم بكل مكوناتها وصفاتها)، كانت تسمح بتشكيله، لاتخاذ الهيئة التي تستجيب لكافة المسؤوليات التي سيكلف بأدائها، أي أن الكتلة المادية لكوكب الأرض آنذاك كانت عبارة عن عجينة غليظة القوام ليِّنة تستجيب لعملية التشكيل، ما أدى إلى اتخاذها الشكل الأقرب إلى البيضاوي. ومع مرور الزمن، واستمرار فقدان كوكب الأرض للحرارة، تحول سطحها إلى الحالة الصلبة مع بقاء درجة حرارته مرتفعة (دون درجة انصهار مكونه الصلبة)، واستمر ما بجوفها من مواد (غازية، وسائلة، وصلبة منصهرة) في حالة كتلة هلامية لَيِّنة. ولا شك في أن كوكب الأرض آنذاك لم يكن في حالة سكون، بل لا بد أنه كان في حالة حركة دورانية بسرعات هائلة حول إحدى محاوره (وهو ما يزال للآن على ذلك)، ما أدى إلى حدوث عملية فرز معدني في قوام تلك الكتلة المادية اللَّينة بجوفه، جاءت نتيجتها بأن ترَكَّزَت المكونات الأعلى كثافة (من حيث الأوزان النوعية) في طبقاتها الجوفية ضمن إطار الغلاف المركزي لتلك الكتلة الهلامية، وجاءت المكونات ذات الكثافة الأقل ضمن نطاق غلافها السطحي. ومع مرور الزمن، وكنتيجة لاستمرار انخفاض درجة حرارة السطح، أخذ حجم كوكب الأرض في التقلص تدريجياً: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (الرَّعد: ٤١)؛ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (الأنبياء: ٤٤)، الأمر الذي أدى إلى تزايد الضغط بداخل تلك الكتلة هلامية القوام، كنتيجة طبيعية لتناقص حجمها، (تناقص حجم كوكب الأرض، الذي ما زال مستمراً للوقت الراهن، وفي المستقبل) فقد أدت هذه العملية إلى حدوث ثورات بركانية متتالية شهدها، وما زال يشهدها كوكب الأرض؛ لقد جلبت هذه الثورات البركانية من جوف الأرض خليط المواد البركانية (مصهور المواد الجامدة، والغازات، بما فيها بخار الماء) لتنتشر محتوياتها الصخرية ذات الأوزان النوعية (الكثافة) المرتفعة على سطح الأرض، وتتراكم محتوياتها الغازية، بما فيها بخار الماء، في الغلاف الجوي المحيط بسطح كوكب الأرض. وبذلك نفهم ما توجه إليه وترشد به الآية: “وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (الزلزلة: ٢)”؛ من معطيات علمية موضوعية سليمة:-
* فالأثقال التي أخرجتها الأرض من جوفها، لم تكن ناتجة عن ظاهرة الزلازل؛ لأن الزلازل لا تؤدي إلى انفجار طبقات الأرض السطحية بالهيئة التي تؤدي لوصول الانفجار إلى منطقة السيولة لمحتويات جوف الأرض من مكوناته مرتفعة الكثافة؛
** آثار الزلزلة التي توردها الآية: “إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (الزلزلة: ١)”، تصف ما يشهده المرء من أحداث في الحياة الدنيا تُحدثها الزلازل التي تضرب كوكب الأرض فتؤدي إلى تصدع طبقته (قشرته) السطحية؛ وهذه الزلازل لا تؤدي إلى خروج ما في باطن الأرض من الكنوز والأموات، أصحاب القبور، مهما تعاظمت شدتها؛ كما ذهب إلى ذلك معظم مفسري آيات الذكر الحكيم؛ وَلَمْ، ولا يُقْصَد بها زلزلة يوم البعث (يوم القيامة)؛ “يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إبراهيم: ٤٨)، التي وصفها الله، سبحانه وتعالى في القرآن العظيم بأنها زلزلة الساعة: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (الحج: ١)؛
* كما أن كنوز الأرض، والأموات أصحاب القبور لا يشكلون ثقلاً على الأرض، كما يعتقد البعض: “فكأنها، أي الأرض كانت مثقلة بما في جوفها من الكنوز والأموات، فتخففت بخروجهم من جوفها”؟!!
إن ورود الآية: “وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (الزلزلة: ٢)”، بالكيفية التي صيغت بها لا تشير إلى نواتج حركة الزلزلة، بل إنها تشير بلا أدنى شك إلى ظاهرة أخرى، ألا وهي: ظاهرة البراكين التي تضرب الأرض وتؤدي إلى انفجار الطبقة السطحية لغلافها وصولاً إلى جوفها هلامي القوام، ما يؤدي إلى خروج مكوناته السائلة (الهلامية اللينة ذات الكثافة/الثقل المرتفعة) والغازية، لتنتشر على سطحها وفي غلافها الجوي. تلك المكونات التي لعبت دوراً رئيساً وأساسياً في نشأة الحياة على سطح كوكب الأرض. وسوف نأتي على توضيح ذلك في الحلقات القادمة بإذن الله. والمرجو من الأخوة المتابعين الاشتراك في الحوار بإبداء ما يرونه من إضافات علمية موضوعية لإثراء النقاش، وزيادة المعرفة؛ وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن ما يلاحظه المرء في غالبية التفاسير لآيات سورة الزلزلة، أن تلك التفاسير تُركِّز على فكرة أن الأحداث الكونية التي تشير إليها هذه السورة العظيمة بتوجيهاتها وإرشاداتها، قد حَصَرت تلك التوجيهات والإرشادات العلمية الموضوعية ضمن نطاق أحداث يوم البعث (يوم القيامة) فقط؛ ولم ينظر إليها كآيات إرشادية ذات مضامين وتوجيهات علمية موضوعية لحث بني البشر للعمل على الإستفادة منها في تَدَبُّر شؤون حياتهم الدنيوية. وللحديث متابعة بإذن الله.