مقالات

“لا وصايا للندم” جهينة العوام     –     الإمارات  

جهينة العوام

في العادة يكتب الآباء وصاياهم لبناتهم وأولادهم، وتكون لكلماتهم رنة تبرير مرتجلة كجنرال مسالم يدرس خريطة الحياة، ويصوغ الاستراتيجية الآمنة، لكنني الآن أجد نفسي مضطرة لأن أكتب وصيتي على قبرك.

 الدم يصعد إلى وجهي، ولا يمكنني فعل شيء لإجباره على العودة الى كثافته في كنف الأوردة والشرايين، هناك حيث يكسو وجهه الحياء بتلقائية وخفة، ويتصنع كما لو أن كل شيء سيكون على ما يرام، فقد كنتَ دوماً رجلاً دقيقاً بالغ الانتظام كبندول يتأرجح أبداً بين الحب والحب.

أتمنى لو تجمعنا حياة أخرى لأخبرك عما جرى بعد وفاتك بلحظات، لماذا نسيت أن تخبرني بأن الزمن ينتهي دائمًا إلى وضعنا في هذا المكان؟

الذي لم يكن في الحسبان.. نظن خطأً أننا نستطيع الالتفاف عليه بالاتكال على أعمالنا الصالحة ونوايانا الطيبة.

– (انتهى الأمر) – قال الطبيب لي – كلمات دقيقة ومقتضبة مثل حكم بلا حيثيات، ولايبدو أنه قابل للطعن أوالنقض أوأي حلول لاحقة.(انتهى الأمر) ورحلت يا أبي من دون أن تخبرني بأن الطبيعة البشرية متهورة غادرة وغير رصينة، عاجزة عن إغلاق فمها، تلطخ العالم بتفسيرات عقيمة ومخيبة للآمال. كان عليك أن تعلم بأن السذاجة والبراءة هما الجذر الخبيث للأخطاء الأخرى ، ومن يزرع الورود ربما ينتهي أمره ميتاً بلسعة نحلة.

ليتني كنت أهذي، لكنني لا أعرف كيف سأخبرك بما جرى بعد وفاتك! كنت تقول إن الزمن يداوي كل شيء، نحن لا نعيش طويلًا، لنتأكد ،هل فعلًا الزمن يداوي أم أننا نكتفي بوضع الملح على الجرح ونتظاهر بأننا شفينا!

الغريب أنك لم تكن مستعدًا لتولي دور المتواطئ في أحجيات الحياة الزائفة، مهما كانت النوايا طيبة والغايات مبررة،علمتني أن الكلمة والإيماءة والنظرة تَوائمُ لا يمكن الفصل بينها، لكن بَعدك اتخذت الحياة مسارات لم يمكنني معها التعرف إلى من حولي ، لم يعد بإمكاني تمييز الفرق بين الساعة والأسبوع أو الفرق بين الشهر و السنة ،لا وجود في حياتي إلا للحضور والغياب .. حضورك أنت وغيابك أنت.

سعادة الماضي ليست بالناصح الجيد ، كنا ظالمين ومتهورين عندما جعلنا من أنفسنا عرابين لفكرة (لسه الدنيا بخير يا حبيبي)

لم نفطن لأن الطمع يتعايش جنباً إلى جنب مع الطيبة، ولكنه أسرع منها بصورة متناهية، لهذا تجد الطيبة نفسها مضحكة.

الطمع يتلاعب بالكلمات.. هو بكل بساطة طريقة لجعلها مرئية أكثر بحيث لا يمكن تغطيتها، ولا حتى ردها إلى جذرها الطيب، وسترها ولو ببعض الكذب.

لا أعرف يا أبي هل ابتهج بالقليل الذي جمعني بك، أم أحزن للافراط في خيبتي بهم!

كنت مشغولة بجمع فتات أحلامنا عن شجرة عمرك التي كانت تستبقي الليل محتجزاً بثبات بعيدًا عني.

لم أنتبه لوحوش الخبث ومتصيدي الأخطاء وأسلوبهم القاسي في تعاملهم مع المبتدئة الطارئة، ليت  بالإمكان اختراع تسمية أقل فظاظة ،أقل خبثاً،أقل وجعاً وهم يغمدون سكينهم في قلبينا.

قتلوك مرتين.. حضرت جنازتك مرتين.. قتلوني لآخر العمر يا ابتي وهم يتلون بيانات انتصارهم .. طعنوا قلبك وقلب وحيدتك، وطعنوا بصحة وصيتك! تخيل لقد شككوا في إرادتك وحبك ! قالوا إن عقلك لم يكن سليمًا، وكلماتك لا تساوي شيئاً، أنت الذي عشت عمرك مكتفياً بي، تدللني.. تدلعني.. تغنجني، أنت الذي بكيت على حضنه من علاقاتي العاطفية الفاشلة، ومسحت دموعه في تخرجي وزواجي وعند ولادة ابني الأول. لقد سمحوا لأنفسهم أن يسلبوني إياك.. كنت أخاهم فقط ،حقهم المالي فقط. بدا هدوئي حقيقياً مع إنه لاوجود له في الحقيقة، لكنني لم اكتشف أسلوباً آخر للتعبير عن استسلامي مع قدر ممكن من الكبرياء مهما كانت الكلفة التي سأدفعها لأعتاد وجوه أعدائي الجدد.

ليتهم تحلوا باللياقة الأخلاقية، وكشفوا لك وجوههم التواقة لاغتيالك، لكان ذلك أنبل بكثير.

انا الان في انتظار الحكم في انتظار أن يقاسموني بيتي وذكرياتي معك والمزرعة وأرجوحتي والسيارة التي كنت فخورًا بي عندما كنت أقودها في سن مبكرة. يقولون إنهم لا يورثون الغريب زوجي وابني(حفيدك)، الذي كان منافسي الوحيد في قلبك، و كنت تفاخر بأنه أنزلني عن الرف.

الانتظار يؤدي إلى ماهو أكثر من إبطال المفاجأت..إنه يخدر الانفعالات ، فكل ما نتمناه أو نخشاه  نكون قد عشناه خلال تمنينا أو خشيتنا منه.

الطبيعة البشرية مصنوعة بطريقة غريبة جدًا يمكن معها لأشد حركات القلب  صراحة وتلقائية أن تكون غير مناسبة. في حالتي نعم بدا لي من غير المناسب أن أتنفس ،أو تجري الدماء في جسدي المتلاشي.. إهانة كبيرة حضور جدل يدور ضدك مباشرة، ولكنك لا تستطيع التدخل فيه، ربما لأن الفم في حالات كهذه عضو محط ثقة أكبر كلما احتفظ بالصمت.

لا يوجد ما يستحق عناء الكلام وإضاعة الوقت، واستهلاك اللعاب لصياغة أقوال.. جمل.. مقاطع صحيحة، في حين أن ما أفكر فيه حقيقة هو استنفاد كأس المرارة حتى العدم.

افتراضات فظيعة واستنتاجات ملطخة بالسم وماهو أسوء من ذلك.. تكهنات مؤكدة إذا ما أخذنا الوقاحة والعهراللذين تُزدرى بهما في قصص من هذا النوع جدران  القلوب.

لن أسامحهم لأنهم سلبوا مني حزني عليك.. سحبوني إلى درب آخر.. لم يتركوا لي أن أحزن عليك كما ينبغي..   أن أودعك كما يليق بالحياة التي عشناها معًا.. اغتالوا حزني يا ابتي. كيف لم يخطر ببالنا أن الذئاب كانت تتربص بنا! هل كان من الممكن لنا في أيام متباعدة أن نحتفي باستثناء نادر في عالم تكرار الخيبات المفجعة!

الخصومة معهم كانت على ما يبدو منذ زمن طويل ، يوم اكتفيت طائعاً بي كوريثة وحيدة، أنت الذي لم تصطدم مرة واحدة بجسدك.. كنت حرًا طوال الوقت تزرع مساكب الزنابق البرية، وتمد جسور الرضا صوب كل شيء.

لم يعترضوا ولو لمرة واحدة، خطر المظاهر أنها تخدعنا، وتكون الخدعة على الدوام نحو الأسوء. لا يمكن للحكم حتى ولو كان لصالحي أن يقلل مرارة الغد، ولا يمكن لهذا الماء أن يعدني بالارتواء.

لست طموحة لدرجة أن لا أخطئ أبداً.. ما أريده فقط هو ألا أخطئ هذه المرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى