مقالات

تأملات (١٣) د. داود سليمان       النمسا  

د. داود سليمان

لعلهم يتفكرون – ١ !!

أين نشأ الإنسان أبو البشر (آدم عليه السلام) وكيفية نشأته، كمثال لنشأة الكائنات الحَيَّة على سطح كوكب الأرض؟

المتتبع لأقوال الكثيرين ممن حاولوا الإجابة على السؤال عن مكان نشأة أبي البشر (آدم عليه السلام)، وكيفية نشأته سيجد أقوالاً لا يقبلها عقل ولا تنسجم مع حقائق العلم …..، فكيف ذلك؟!

بداية يجب علينا الإقرار موضوعياً وعلمياً بأن الآيات القرأنية التي تحدثت عن نشأة أبي البشر “آدم عليه السلام”، وهي الآيات التي اتخذها معظم مفسري آيات الذكر الحكيم مرتكزات لتفسير خلق آدم عليه السلام، ومكان نشأته الأولى، لم تذكر أنه خُلِقَ: من التراب، أو من الطِّين، أو من الطين اللازب، أو من الحمأ المسنون،  أو من الصلصال الذي كالفخار، فلم تذكر الآيات هذه الأوساط: ب-أل: التعريف)، ولكنها جاءت خالية من ذلك، ما يؤكد أن الطين، كمادة كيميائية، لم يسهم بشيء في بناء جسم الكائن الحي، ولكنه كان الوسط الذي جرت فيه العمليات (التفاعلات) الكيميائية البدائية والمعقدة (وفقاً للظروف الحرارية التي سادت على سطح الأرض، وتعرض لها خليط المواد الكيميائية التي نشأت بفعل موجات البرق في جوف الغيوم الركامية من مكونات كيميائية بسيطة قذفتها البراكين، ابتداءً بحالة التراب واختلاطة بالماء ليصبح طيناً، ومروراً بكافة حالات الطين التي ذكرتها الآيات) ما أدى إلى نشأة المواد الكيميائية العضوية الحيوية معقدة التركيب التي أُحْسَنَ تنظيمها بدقة متناهية في تكوينات/كيانات مادية متباينة البناء الهيكلي والتركيب المادي، لبناء أجسام مختلف أنواع الكائنات الحية، بما فيها جسم الإنسان. لقد نشأت تلك التكوينات المادية داخل فجوات الأوساط الطينية التي ذكرتها الآيات القرآنية، حيث خضعت مفرداتها للعديد من التفاعلات الكيميائية العضوية الحيوية الموجهة من قبل الخالق الله، سبحانه وتعالى، وقد أُحْسِنَ تتنظيمها بدقة متناهية بما يؤدي إلى إعدادها لاستقبال نفخة الروح من الخالق، الله عز وجل، لإنتاج مختلف الأحياء على سطح كوكب الأرض. وتجدر الإشارة إلى أهمية التأكيد على أن تكون المكونات الكيميائية التي ستنشأ منها أجسام الكائنات الحية على أعلى، أو أسمى/أدق، درجة من التنظيم والتنسيق لكي تكون مؤهلة لاستقبال نفخة الروح لتَدُب فيها الحياة، ومن ثمَّ انطلاق أنشطة العمليات الحيوية باتجاه نشأة الكائن الحي. ولكي نقرب هذا الأمر للقارئ نسوق المثال التالي.

* هَبْ أن لديك بيضتي دجاجة ملقحتين؛ لا شك في أن يكون التركيب الكيميائي المادي، والبناء الهيكلي الهندسي لمحتويات كُلٍّ من البيضتين متماثلاً تماماً؛ ثم قُمْتَ بتعريض إحداهما لتأثير الموجات فوق الصوتية، حيث يؤدي ذلك إلى إحداث بعض الخلل في البناء الهندسي لمحتوياتها، مع بقاء التركيب الكيميائي المادي من دون تغيير؛ ثم قُمْتَ بوضع البيضتين في حاضنة تفريخ لمدة ثلاثة أسابيع تقريبا؛ ماذا ستكون النتيجة؟ بالطبع إحدى البيضتين، وهي البيضة التي لم تتعرض لتأثير الموجات فوق الصوتية سيخرج منها كائن حَي (كتكوت)، أما البيضة الأخرى فلا يخرج منها كائن حَي!! لماذا؟ لأن متطلبات إنتاج كائن حَي من الكتلة المادية بداخل حيِّز وعاء البيضة، يتطلب أن تكون مكونات تلك الكتلة (البناء التركيبي/ الهندسي المادي) على أكمل درجة من التَّنظيم والتَّنسيق، بما يسمح باستقبال نفخة الروح، لِتَدُب فيها الحياة، وتأخذ مسارها إلى إنتاج الكائن الحي (الكتكوت)، أما إذا حدث أي تغيير في البناء الهيكلي/الهندسي لمكونات الكتلة المادية، بما يؤدي إلى حدوث خلل تنظيمي في ذلك البناء، مهما كانت ضآلته، فإن تلك الكتلة المادية تصبح غير مؤهلة للتعامل مع متطلبات نفخة الروح فيها، وبالتالي تنعدم إمكانيتها لاستقبال نفخة الروح لتدب فيها الحياة، ومباشرة عملية الارتقاء لأداء مكوناتها باتجاه النمو لإنتاج الكائن الحي ( الكتكوت).

ماذا يعني ذلك بالنسبة لخلق الأحياء على سطح كوكب الأرض؟

لكي توجد حياة على سطح كوكب ما، لا بد من توافر ما يلي:-

١- إيجاد تجمع مكونات مادية (أو كتلة مادية) من مركبات كيميائية متآلفة، ومنسقة بكيفية غاية في التنظيم تكون مُؤهلة لاستقبال نفخة الروح من أمر الله الخالق، المصور، لتبدأ تلك المكونات عملية الأداء بالاتجاه الذي تتطلبه نفخة الروح في تلك الكتلة المادية، بما يؤدي إلى بدء عمل كافة أجزاء ذلك البناء (كل جزء أو مكون منه) على أداء ما أوكل إليه من مهمات في تناغم غاية في التنسيق مع ما تقوم به الأجزاء الأخرى من أداء؛ ولتحقيق ذلك لا بد من الاحتفاظ بتنسيق البناء الهيكلي دون خلل أثناء عملية الإحياء.

٢- إيجاد الوسيلة المناسبة لعملية الإحياء (بعث الروح) في الكتلة المادية. فتعريض البيضة الملقحة التي احتفظت بالبناء الهيكلي لمكوناتها سليماً، دون تشويه، لدرجة حرارة مناسبة، ولفترة زمنية معينة (حوالي ثلاثة أسابيع) أنتجت الكتكوت الكائن الحي؛ أما البيضة التي تعرض بناؤها للتشويه، فلم تنتح كائناً حيًَ، رغم أن البناء/ التركيب الكيميائي للبيضتين متماثل تماماً؛ ماذا نستخلص من ذلك؟

* لكي تكون تجمعات التكوينات المادية (أياً كان نوعها، مركبات بسيطة أو أفراد مكتملة البناء) قابلة للحياة والنمو، ومنتجة لا بد لها من أن تكون محكمة التنظيم، متناسقة الأداء لكل مكوناتها بالاتجاه الذي يؤدي إلى تعزيز نتيجة الفعل لكل عنصر (لكل مُكَوِّن من مكونات الكتلة المادية)، وبالتالي تعظيم نتيجة الأداء الكلي أو الإجمالي للكتلة.

* إن أي خلل في البناء الكلي (أو الجزئي) للكتلة المادية (من حيث النوع أو الكيف) تكون نتيجته تعطل عملية الأداء الإيجابي للكتلة بأكملها.

إذا ما تأمل المرء بروية في توجيهات الآيات القرآنية ذات العلاقة بعملية خلق الإنسان (كمثال لخلق الكائنات الحية على سطح كوكب الأرض) سوف يتأكد له، دون أدنى شك، أن خلق آدم، عليه السلام (كمثال لعملية خلق كافة الأحياء) قد بدأ على سطح الأرض من تجمعات المواد الكيميائية العضوية/الحيوية ذات الصلة، المطلوبة لبناء كيانات الأجسام المادية باختلاف أنواعها التي ستُبْعث فيها الروح من أمر الله، لتصبح بالتالي كائنات حية.

كما أن المرء لا بد أنه سوف يستنتج من تعدد الآيات القرآنية، التي تشير إلى تعدد حالات الطين، أن عملية الخلق قد حدثت على سطح كوكب الأرض، كما أشارت إلى ذلك الآيات القرآنية:-

* وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا، قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ….. (هود: ٦١)؛

* وَاللَّـهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (نوح: ١٧)؛

* سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس: ٣٦).

وبهذا الخصوص ندعو الأخوة القراء المتابعين التأمل بروية في ما توجه إليه وترشد به الآيات القرآنية الكريمة التالية، (يرجى ملاحظة تنوع الأوساط: التراب، ثم الطين بكافة حالاته) التي ذكرتها الآيات لخلق الإنسان، باعتباره يمثل عملية الخلق “خلق الكائنات الحية على سطح كوكب الأرض” بشكل عام:-

* إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (آل عمران: ٥٩)؛

* قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرتَ بِالَّذي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا (الكهف: ٣٧)؛

* وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ ……….. (فاطر: ١١)؛

* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ……. (الحج: ٥)؛

* وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم  بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (الروم: ٢٠).

لا شك في أن هذه الآيات تشير إلى الحالة الابتدائية لعملية الخلق (بداية عملية إيجاد المُركبات الكيميائية العضوية الحيوية التي جرى ادمصاصها على أسطح حبيبات تراب الأرض) ومن تجمعات هذه المواد ستنشأ الكتل المادية لبناء أجسام الكائنات التي ستصبح كائنات حية على سطح الأرض عندما تُبعث فيها الروح من أمر الله. والسؤال الآن: من أين جاءت تلك المُركبات/المُكونات الكيميائية؟

باعتقادنا أنها نشأت في جوف السحب الركامية (نتيجة تعرض خليط الغازات البركانية بجوف السحب الركامية لموجات البرق)، ومن ثمَّ جلبتها الأمطار على سطح الأرض حيث اختلطت بداية بالتراب، وجرى ادمصاصها (التصاقها) على أسطح حبيبات التراب، وبقيت ملتصقة بتلك الحبيبات عندما تعرضت أماكن وجودها للجفاف بفعل ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض، ثم تعاقبت عليها عمليات الرطوبة والجفاف عبر العصور المتعاقبة، وبالتالي تتابع تعرض تلك المواد لتأثير مختلف الأحوال الجوية.

* ونظراً لتبدل الأحوال الجوية على سطح الأرض بالنسبة لدرجات الحرارة عبر العصور، وبالتالي تعرض سطح الأرض لحالات تبادلية بين الجفاف والرطوبة، فقد أدى ذلك إلى إيجاد حالات بيئية متفاوتة من حيث درجات الحرارة على سطح الأرض، ما أدى بالتالي إلى إحداث عمليات كيميائية حيوية لإنتاج حالات متنوعة لوجود خلائط متباينة البناء التركيبي من المركبات الكيميائية الحيوية (بسيطة التركيب البنائي، ومتوسطة التعقيد، ومن ثَمَّ معقدة البناء التركيبي) تبعاً لحالة الجفاف ودرجات الحرارة التي تعرض لها خليط المواد الكيميائية العضوية والحيوية بجوف طبقات الطين؛ وهو الأمر الذي يشير إليه تنوع حالات وجود الطين في الآيات القرآنية التي أشارت إلى خلق الإنسان، باعتباره مثالاً لخلق الكائنات الحية.

* الَّذِي  أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (السجدة: ٧) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (الأنعام: ٢)؛ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (الإسراء: ٦١)؛ ….. ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (الأعراف: ١٢)؛ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (ص: ٧١)؛ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (ص: ٧٦). وللحديث بقية بإذن الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحياتي دكتور ارجو ولو اشارة لنا عن الصبغة او الجينات لناخذ فكرة منك في السلسلة التي تقدمها وعن فصائل الدم عند الانسان وهذا السائل العجيب .ارجو ان نستزيد علما منك ومعرفة اكثر .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى