الأحياء كافة، بما فيها الإنسان خُلِقَت على سطح الأرض.
ذكرنا في الجزء السابق من هذه الحلقة (تأملات) أن الآيات القرآنية ترشد المرء إلى أن بداية نشأة الإنسان كانت على سطح الأرض: “وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا، قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ….. (هود: ٦١)”؛ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (نوح: ١٧)؛ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس: ٣٦). فكيف بدأت عملية خلق الإنسان (كمثال لبعث الحياة على الأرض)، وبماذا اختتمت؟
البداية: عندما امتزجت المكونات الكيميائية العضوية بالتراب،
” قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ …….. (الكهف: ٣٧)، ثم تحولت حالة التراب بمحتوياته إلى حالة الطين عندما اختلط التراب بالماء،
ثم تواصلت عملية الخلق مروراً بحالات الطين المشار إليها في الآيات القرآنية، التي تجملها الآيةالكريمة: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (المؤمنون: ١٢)”، وأن عملية الخلق الإجمالية قد مرت بأطوار متعددة، “مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (نوح: ١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (نوح: ١٤)”؛ ثم جاءت الآيات بتفصيل أوضح لحالات وجود الطين الذي تشكلت منها أوساط سلسلة الخلق (سلسلة الأوساط الطينية لتنشيط عمليات التفاعلات بين محتويات الطين من المركبات الكيميائية)؛ حيث انتقلت سلسلة الخلق من حالة الطين البسيطة (الطين اللَّين): “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (الأنعام: ٢)”؛ “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (ص: ٧١)”، إلى حالات الطين الأكثر تعقيداً (من حيث درجة الحرارة، والكفاءة في إحداث تفاعلات كيميائية متنوعة)؛ بداية بالطين اللازب: “فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (الصافات: ١١)؛ مروراً بحالة الطين الصلصال الذي كالفخار: “خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (الرحمن: ١٤)”، وانتهاءً بحالة طين صلصال الحمأ المسنون: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (الحجر: ٢٦).
وللعلم فإن الطين اللازب (هو خليط التراب بالماء بمحتوى مائي أقل من المحتوى المائي لحالة الطين العادي/الطين اللَّيِّن؛ وذلك نتيجة تَعرُّض طبقة الطين اللَّين لتأثير درجة حرارة مرتفعة نسبياً عن تلك الدرجة التي تعرضت لها حالة الطين اللَّين، بسبب التغيرات الجوية التي حدثت على سطح الأرض؛ ما يؤدي إلى إحداث تفاعلات كيميائية أكثر تعقيداً وتنوعاً بين المواد الكيميائية العضوية التي احتضنتها طبقة الطين اللازب، لإنتاج مركبات كيميائية أكثر تعقيداً، وتنوعاً عن تلك التي احتضنتها طبقة الطين اللَّين؛ ثم تذكر الآيات أن مرحلة عملية الخلق قد امتدت إلى حالة طين الصلصال، ومن ثم حالة طين الحمأ المسنون. والمعلوم علمياً وموضوعياً أن درجة حرارة وسط التفاعل ذات تأثير قوي على سير التفاعلات الكيميائية العضوية الحيوية، وتؤدي إلى نتائج متباينة؛ وبالتالي فإن طبقة الطين عندما تصل إلى حالة الصلصال، ومن ثَمَّ حالة الحمأ المسنون تكون أقدر على إنجاز تفاعلات كيميائية يصعب إنجازها في وسط الطين اللازب، وحالة “طين الفخار، والطين الصلصال”. إن حالة الحمأ المسنون هي حالة بلا شك، تصل إليها طبقة الطين بمحتوياتها من المواد/المُركبات الكيميائية عندما تتعرض لتأثير درجة حرارة مرتفعة، حيث عندئذ يفقد الطين الجزء الأكبر من محتواه المائي، ويتحول بالتالي إلى وسط أكثر نشاطاً لإحداث تفاعلات كيميائية أعقد وأكثر تنوعاً من سالفتها التي تحدث في وسط الطين اللازب، وطين الصلصال الذي كالفخار. ولا شك في أن حالة طين الحمأ المسنون في الآيات: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (الحجر: ٢٨)؛ “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ” (بمعنى أحكمت وضع مكونات جسده، كُلَّ مُكوِّنٍ في الموضع المخصص له بدقة في تناسق، وتناغم محكم، لضمان الأداء المتكامل لكافة مكونات الجسد، عندما تنفخ فيه الروح من أمر الله) كما تشير إلى ذلك الآية القرآنية الكريمة: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: ٤)”، لاستقبال نفخة الروح من أمر الله: “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي”، لكي تَدُب الحياة في الجسد المادي للكائن، فيصبح كائناً حياً؛ “فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: ٢٩)”،
فحالة طين الحمأ المسنون لا شك في أنها تشير إلى الوسط الطيني المطلوب لإحداث أعقد التفاعلات بين مكونات الجسد المادي التي تجمعت في ذلك الوسط. وباعتقادنا أن تعدد الآيات القرآنية التي ذُكِرت فيها حالة الخلق من حالات وجود الطين كوسط لاحتواء المركبات الكيميائية العضوية الحيوية التي ستنشأ منها الأجسام المادية للكائنات تشير إلى تعدد وتنوع المخلوقات التي منها المخلوقات البسيطة (البدائية)، ومتوسطة البناء التركيبي والبناء الهيكلي، وأخرى معقدت التركيب الكيميائي والبناء الهيكلي.
وربما توجه هذه الآيات إلى أن عمليات حالة الخلق قد وصلت إلى منتهاها بوصول طبقة الطين إلى حالة الصلصال فالحمأ المسنون، وذلك بنشأة كافة المواد الكيميائية العضوية الحيوية لبناء جسم الكائن الحي الأرقى، والأكثر تعقيداً. وهذه المواد إذا ما تعرضت لتأثير درجة حرارة مرتفعة فإنها تحترق مطلقة رائحة مميزة، أشبه ما تكون برائحة احتراق اللحم. وبهذا المفهوم فإن الأوساط الطينية التي أشارت إليها الآيات القرآنية، تمثل من وجهة نظرنا، مجرد البيئات (أوساط التفاعلات) التي نشأت فيها (جرى أثناءها) خلق العديد من أنواع الأجساد المادية للأحياء على سطح الأرض، بإذن الله؛ وأن حالات الطين الصلصال، والحمأ المسنون تمثل أوساط التفاعلات الأشد قساوة من حيث درجة الحرارة، وبالتالي نوعية التفاعلات الكيميائية العضوية الحيوية التي تعَرَّض لها خليط المركبات الكيميائية في الوسط الطيني، لخلق أعقد المخلوقات من حيث البناء التركيبي والهيكلي. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ما يلي:-
* حالة التراب، تكون فيها درجة الاتصال المباشر بين المركبات الكيميائية ضعيفة، حيث تكون المركبات الكيميائية العضوية الحيوية مدمصة على سطح حبيبات التراب، وبالطبع تكون مراكز نشاطها متباعدة نوعا ما، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث أبسط التفاعلات الكيميائية بينها لتنشأ بذلك أبسط المركبات الكيميائية الحيوية.
** حالة الطين التي تنشأ نتيجة اختلاط التراب بما يحويه من مواد كيميائية بالماء، تكون إمكانية الاتصال المباشر بين المركبات الكيميائية في هذا الوسط أكثر حدوثاً، ما يعزز فرص التفاعلات البينية المتعددة لتكوين منتجات أكثر تعقيداً من سابقتها (حالة اختلاط المواد الكيميائية العضوية والحيوية بالتراب)، عند درجات حرارة متدنية نوعاً ما؛ ولا شك في أن نشأة حالة الطين اللَّين حيث يزداد تركيز المواد الكيميائية، وبالتالي تتيح هذه الحالة ازدياد فرص التقاء المركبات الكيميائية، وبذلك تزداد قابليتها/إمكانيتها للدخول في تفاعلات بينية متنوعة عند درجة حرارة معتدلة لإنتاج تجمعات متنوعة من المركبات العضوية الحيوية؛ وفي حالة الطين الذي كالصلصال، حيث تتزايد إمكانية الاتصال المباشر بين المركبات الكيميائية، وتكتسب تلك المركبات كمية من النشاط تسمح لها بالدخول في تفاعلات معقدة لبناء منتجات عضوية حيوية أكثر تعقيداً من حيث التركيب المادي والبناء الهيكلي؛ أما حالة طين الحمأ المسنون فهي تمثل أقسى درجة حرارة ممكنه لبناء المركبات الكيميائية الحيوية معقدة التركيب المادي والهيكلي. هذا التصور لنشأة الأجسام المادية التي ستُنفخ فيها الروح من قبل الخالق، الله سبحانه وتعالى، يتوافق مع حقيقة أن التفاعلات الكيميائية العضوية الحيوية تحدث عند درجات حرارة متفاوتة من حيث الشدة؛ فمنها ما يتم عند درجة حرارة معتدلة، ومنها ما يتم عند درجة حرارة متوسطة الشدة، ومنها ما يحتاج إلى درجة حرارة مرتفعة، وقد تحتاج نشأة بعض الأجسام إلى مستوى حرارة شديد القساوة، ومنها ما يحتاج إلى وجود عوامل مساعدة منشطة للتفاعلات المختلفة، الأمر الذي يجعلنا نعتقد بأن هناك العديد من أنواع الأجسام التي تنشأ نتيجة تباين درجات الحرارة التي يتعرض لها خليط المركبات الكيميائية العضوية الحيوية في الأوساط الطينية المتعاقبة، ما يؤدي إلى تنوع ظهور الأجناس (من حيث التركيب المادي والبناء الهيكلي) من الأحياء على سطح الأرض عندما تُنفخ الروح من أمر الله في تلك التَّجمعات من الكتل المادية محكمة التركيب المادي، والبناء الهندسي/الهيكلي، وذلك على فترات زمنية متعاقبة. وبناءً على هذا التصور، نعتقد بأن بعض أنواع الأحياء البدائية (من حيت التركيب المادي) تنشأ في المرحلة التي يكون فيها خليط التراب والمواد الكيميائية العضوية الحيوية قد امتزج بالماء مكوناً حالة الطين اللَّين؛ ثم تتواصل سلسلة عملية الخلق وصولاً إلى حالة الطين اللازب، ثم حالة طين الفخار، وحالة طين الصلصال، وانتهاءً بحالة الحمأ المسنون؛ وذلك لمواصلة سلسلة عملية الخلق من الأحياء الأدنى رتبة (من حيث التركيب المادي والبناء الهيكلي)، وصولاً لإنشاء مخلوقات أعقد من سابقتها في كل مرحلة من مراحل الخلق. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى الآيات القرآنية التالية:-
* “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا” (بمعنى كونهم بداية عبارة عن تجمعات مادية من المركبات الكيميائية العضوية وغير العضوية ذات العلاقة ببناء الجسد المادي للكائن الذي ستدب فيه الحياة بنفخة الروح من الله سبحانه وتعالى، ليصبح كائناً حياً) “فَأَحْيَاكُمْ ۖ”، (عندما تنفخ الروح في الجسد المادي)؛ “ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: ٢٨)”؛
* “وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ (بمعنى أن الخالق، الله سبحانه وتعالى قد أوجد المكونات المادية للكائن، ورتب كل مكون منها ترتيباً محكماً ضمن إطار الجسم المادي لكل كائن من الكائنات التي ستصبح كائنات حية بنفخ الروح فيها من الله)، “ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ….(الأعراف: ١١)”.
المعروف حالياً أن أجسام الكائنات الحية على سطح الأرض تتركب من المواد العضوية الحيوية الي تتألف بصفة أساسية من عناصر:- الكربون، والهيدروجين، والأكسجين، والنيتروجين، والكبريت، والفوسفور، والكالسيوم “مادة بناء العظام، بصفة رئيسة، في أعضاء المملكة الحيوانية الراقية والطيور؛ كما يشتمل بناء تلك الأجسام بعض العناصر المعدنية (كالحديد، والنحاس، والصوديوم، والبوتاسيوم، والمغنيسيوم …إلخ)؛ وتتفاوت نسب هذه العناصر في بناء أجسام الكائنات الحية، ابتداءً من أجسام الأحياء البدائية (الديدان، والطفيليات، والأحياء الرخوية)، وصولاً إلى بناء الأجسام الراقية لأعضاء المملكة النباتية، والحيوانية والطيور.
وبعد أن أصبحت مكونات الأجسام المادية للأحياء المختلفة على سطح الأرض معروفة، فالسؤال الآن: من أين أتت المواد الأولية البسيطة التي نشأت منها تلك المركبات على سطح كوكب الأرض؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد للمرء من اللجوء إلى الاستعانة بمبدأ الهندسة العكسية، بمعنى محاولة إرجاع كل عنصر (أو مكون من تلك العناصر/ المكونات المادية البسيطة) إلى حالته الأولية، ومن ثَمَّ محاولة معرفة من أين جاء، وكيف نشأ؟
وللوصول إلى إجابات عقلانية مقنعة، نضع مجموعة من الأسئلة أمام الأخوة المتابعين، للتَّفَكُّر في توجيهاتها وإرشاداتها ذات العلاقة بموضوع نشأة الحياة على سطح الأرض:-
١- ما هي الكيفية التي نشأ بها كوكب الأرض، والحالة التي استقر عليها؟
٢- ما هي الكيفية التي نشأت بها التربة بمكوناتها المتباينة فيزيائياً وكيميائياً؟
٣- ما هي الكيفية التي نشأ بها الغلاف الغازي المحيط بسطح الأرض، ونوعية مكوناته؟
٤- ما هي الظواهر الكونية التي تعرض لها كوكب الأرض، وآثارها،
٥- ما هي الكيفية التي تمت بواسطتها حماية نُطف الحياة الأولية (الابتدائية) على سطح كوكب الأرض؟
نأمل من الإخوة المتابعين المشاركة في الحوار لإثراء المعرفة.
بارك الله في علمكم وفتح عليكم فتوح العارفين..
لكن سؤال يطرح نفسه:
(من الأرض أنشأكم)هل يؤكد هذا مقولة أن الجنة المقصودة التي هبط منها آدم هي المكان المرتفع من سطح الأرض..؟
وهل نربط هذا بآية ( لقد صدقنا وعده وأورثنا الأرض).
آيات التوفيق لكم
بارك الله في علمكم وفتح عليكم فتوح العارفين..
لكن سؤال يطرح نفسه:
(من الأرض أنشأكم)هل يؤكد هذا مقولة أن الجنة المقصودة التي هبط منها آدم هي المكان المرتفع من سطح الأرض..؟
وهل نربط هذا بآية ( لقد صدقنا وعده وأورثنا الأرض).
آيات التوفيق لكم
احسنتم