مقالات

قراءة في كتاب “البيئة والإنسان”    د.نزار دندش  أمل ناصر    –    لبنان

د. نزار دندش

 

أمل ناصر

 

آن الأوان لتصحيح العلاقة بين الإنسان والطبيعة

الإنسان مرآةٌ لهذا الكون والكثير من الظواهر الطبيعية لها ما يشبهها عنده

 

في كتابه الموسوعي الجديد الصادر عن “الدار العربية للعلوم -ناشرون” تحت عنوان ” البيئة والإنسان ، من براءة البدائية الى وحشية المدنية المُخادعة ” يتصدى الدكتور نزار دندش لأهم الأزمات البيئية-الثقافية-العلمية-الفلسفية-الأخلاقية التي يواجهها العالم اليوم، ويجيبنا عن أسئلة وتساؤلات رافقت الإنسان على امتداد تاريخه الراشد.

الكتاب يُفسِّر لنا سببَ مشاعر العداء التي يكنّها كل كائن تجاه الكائنات الأخرى، وهو يرى أن الإنسان مرآةٌ لهذا الكون وأن الكثير من الظواهر الطبيعية لها ما يشبهها عنده، ولا عجب في ذلك فالله ” قد خلق الإنسان على صورته”.

كذلك يرى مؤلف الكتاب أن الكائنات الحية ومنذ وجودها الأول على هذا الكوكب داخلة في تفاعلات دائمة ترقى في كثير من الأحيان إلى مستوى الصراعات، ومن هذه الصراعات ما هو طبيعي ومنها ما لا لزوم له.

وجواباً على سؤاله من نحن ؟ يقول المؤلف : “نحن جزء من نموذجِ حياةٍ ما زال سائداً على كوكب الأرض ، نموذج لا يحيا فيه كائنٌ حي إلا إذا أفنى آلاف الكائنات الحية الأخرى لأنه يستخرج غذاءهُ منها ويحيا على حسابها، نموذج شعاره: كلٌّ يأكلُ كلاً على هذه الأرض،علماً بأن هناك قلّةً من البشر قد ارتفعت إلى مستويات لافتة من الإنسانية بحيث إن أفرادها قد تخلّصوا إلى حدٍّ كبير من عدوانيتهم تجاه الكائنات الأخرى وراحوا ينادون صدقاً بالمحبة والرحمة والعدالة وتقبّل الآخر”

يُكرّر الكاتب في عدة أماكن من كتابه فكرةً مفادها أن كوكب الأرض ملكٌ لكلِّ كائناته، وأن الحياة عليه لا تتمُّ إلا بتفاعل هذه المُكوّنات، فالنباتات مثلاً تحوّل المواد “الجامدة” إلى أجزاء من مكونات المواد الحية في الطبيعة، وتُعوِّض عمّا تمَّ استهلاكه. الطيور تقوم بمهمة التلقيح ونشر البذور إلى جانب النحل والفراشات، حتى الحيوانات المفترسة التي يقول المؤلف إن الإنسان قد تتلمذ على يدها في بداية وجوده على الأرض تلعب دوراً مهماً في ضبط التوازن البيئي كي تبقى المراعي والمساحات الخضراء،علماً بأن بعض الحيوانات مختص بتنظيف البيئة من الجِيَفِ والنفايات.

أما الإنسان الذي تميّزعن غيره من الكائنات بالتسلح بالعلم، فقد جيّرالعلم لمصلحة التنكيل بالبيئة، مُغيِّراً وجه الكوكب، متلاعباً حتى بجينات كائناته، ومُستعملاً العلم لتطوير الأسلحة التي تهدّد بفناء العالم على كوكب الأرض.

وبعد عرضٍ لسيرة كوكب الأرض الجيولوجية، وتتابع ظهور الكائنات الحية على سطحه، وعرض لدور هذه الكائنات في تشكّل ما نسميه اليوم بيئة الأرض، انتقل المؤلف إلى سيرة الوعي عند الإنسان الذي غدا يستعمر هذا الكوكب ، وعناصر الوعي برأي المؤلف صارت تجتمع في العلم والدين والفن والفلسفة بعد انتهاء عصر الأساطير.

الميثالوجيا كانت ممراً إجبارياً لارتقاء وعي الإنسان ، والأسطورة كانت أول حقل فكري معرفي خيالي تعاطى معه عقل الإنسان، ووجد فيه إجابات عن تساؤلاته التي لم يجد لها جوابًا.

وبعد الميثالوجيا، جاءت الأديان البدائية التي فسّر بعضها الظواهر تفسيراً منطقياً ناقضاً تفسيرات الأساطير، وعندما بلغ الإنسان مرحلة التدين كان قد بلغ مرحلة النضج الذهني الأول، حيث صار بمقدوره أن يفكر ويحلّل ويجادل ويجد لخوفه من عوامل الطبيعة مبررات، ويؤمن بوجود قوى تسبب له الخوف وقوى أخرى تحميه.

الفعالية الثانية في تاريخ وعي الإنسان كان العلم الذي وضع التفسيرات العلمية للظواهر الطبيعية، .

وإذا كانت الأديان قد تولّت الجوانب الأخلاقية، الاجتماعية ، والإنسانية في حياة الإنسان، فإن العلم قد تولّى الجانب الآخر فاكتشف القوانين ودرس نشاطات الكون على أسس علمية وضبط تفكيرالإنسان على ميزان المنطق.

لقد نجح الإنسان في مجال العلم الذي نقله إلى فضاء جديد، وجعله يحقق في سنوات قليلة ما حققه خلال ملايين السنين.

ويرى الكاتب في الإنسان مرآةً للكون، ففيه ما يشبه الكثير من العمليات التي تحدث على كوكب الأرض وفي حياة النجوم وسواها، فيرى تشابهاً بين عمليتي المدّ والجزر في البحر، وعمليتي الشهيق والزفير في رئتي الإنسان، وتشابهاً بين عملية تساقط أوراق الأشجار وظهور أوراق جديدة بديلة عنها،     وموت ملايين الخلايا في جسم الانسان وولادة خلايا جديدة .ويرى تشابهاً بين مراحل ولادة النجوم وحياتها وموتها وبين مراحل حياة الإنسان من الطفولة إلى الممات، ويرى التشابه أيضاً بين تغيّر الطقس وتصرفات الطبيعة المتقلبة، ومزاج البشر الذين تنتابهم التغيّرات والتقلبات.

الإنسان ابن بيئته التي أعطته الكثير من صفاتها وهو يشبهها ويُقلّدها، لكن الدكتور دندش يذهب أبعد من ذلك ليقول إن الإنسان ابن بيئته الكونية، وليس ابن بيئته الأرضية وحسب، ويقترح إدخال الشمس وبعض العناصر الكونية إلى ما يسمونه المحيط الحيوي في علم البيئة.

ولأن كل العناصر الأولية في الطبيعة من ذرّات وجسيمات وجزيئات، وكلّها تُصدر الإشعاعات، فقد رأى الكاتب أن نعتبر الإشعاعات لغة الكون، بل لغة مشتركة بين الأحياء والجماد ينطق بها كل جسم مؤلف من ذرات، ومِنَ الذرات تتشكّل كل الأجسام!

   تَشَكُّلُ الوعي

يقول المؤلف إن الطبيعة نفسها قد شكّلتْ بدايات الوعي عند الإنسان، وقد تكون الخطوة الأولى في مسيرة وعيه علاقته بالطعام والشراب وشعوره بالجوع والعطش ، ولعلّ الخوف من أوليات المشاعر التي ساورت الإنسان، ويبدو أن المُنَظِّرين الأوائل الذين أفرزتهم الحياة هم الذين صاغوا الأساطير وأطلقوا فيها العنان لخيالهم،  وقد ساعدهم في ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يطلب برهاناً، بل كان ينجذب إلى ما يدغدغ خياله.

وكما جاء في الصفحة 118من الكتاب، فإن تاريخ امتلاك الوعي الإنساني موزّعٌ على عدة مراحل تبدأ بعصر الأساطير، وبعده عصر الديانات البدائية، ويليه عصر الفلسفة وصولاً إلى عصر العلم.

العلم والدين والفلسفة أعمدةٌ ثلاثة في ثقافة الإنسان، ورحلة الوعي كانت طويلة ومضنية في تاريخه. كانت البداية في وعيه لوجوده، وكان في ذلك باب من أبواب الافتراق عن عالم الحيوان، والتفكير بدرء الأخطار، وبعد ذلك انتقل الإنسان إلى حقل المعرفة فكانت مغامرة الأساطير.

ولأن تطورالإنسان كان بطيئاً في بداية الأمر، فقد امتدّ عصر الأساطير طويلًا، ولأن الأسطورة كانت باكورة نشاطه الواعي، فإن رواسبها ما زالت تتغلغل حتى اليوم في الكثير من النتاجات الفكرية عند كل شعوب العالم.

وبعد عصرالأساطير تطورالإنسان على مختلف الصعد، وكان للعلم الدور الحاسم والفعّال في تطوره، فعندما تسلّح بالعلم سجّل قفزاتٍ رهيبة في سلّم التطور، وراح يطوًع الطبيعة من حوله .

وبعد أن كان همّ الإنسان الأول أن يحصل على طعامه، وأن يحمي نفسه من بيئته من بردها وحرّها وبرقها ورعدها ومزاجية الطقس فيها ومن عواصفها المخيفة… فإذا به اليوم بات يرى من واجبه حماية البيئة من نفسه لأنه اكتشف أن تصرفاته باتت تشكل خطراً كبيراً على بيئته.

لقد طوّع الإنسان إلى حدٍّ كبير بيئته القريبة، فغيّر تضاريس الأرض وتدخّل في علاقات الكائنات ونُظُمِها وصولاً ‘لى تعديل الجينات في الكثير من الكائنات الحية من نباتات وحيوانات، وقد ملأ البيئة بالمركبات الكيميائية التي لم تعهدها من قبل، ولا تجيد التعامل معها أوالتخلص منها فأوقعها في وضع صعب.

لقد حقّق العلم المعجزات فاكتشف الكثير من قوانين الطبيعة، ودخل إلى أعماق الذرة، وقرأ التاريخ مستعيناً بلغة الإشعاعات، ودخل في تفاصيل مذهلة في جسم الإنسان وأجسام الكائنات الحية، وأدخل مركبات كيميائية جديدة ووضع اكتشافاته بتصرف التكنولوجيا التي وضعت إمكاناتها بتصرف المتمولين، فاستعملت نتائج العلم للمنفعة حيناً وللإضرار أحياناً أخرى، حتى صار العلم يظهر بوجهين مختلفين، بل بوجهين متناقضين، ودخل العلم في ازمة أخلاقية، ودخلت البيئة في أزمة وجودية، ووقع الإنسان في دوامة الخوف على المصير.

ويرى المؤلف ” إن الطبيعة التي اعتادت أن تجدّد نفسها باستمرار، وتنظّف نفسها من نفاياتها الخاصة وتطوّر نفسها، قد وصلت إلى نقطة قد لا تقوى بعدها على التجدّد والتطور وتنقية الذات ، وهنا الخطورة القصوى”

إن البيئة بحاجة إلى حماية، ولا يمكن أن نحميها إلا إذا فهمناها،أي إذا حصلنا على الكمّ الكافي من المعارف البيئية التي أثبتها العلم وصنّفها، وإذا جنّدنا أكبرعدد ممكن من البشر المهتمين بحمايتها.

نحن بحاجة إلى المعارف البيئية، إلى الثقافة البيئية، وإلى الفلسفة البيئية… وصولاً إلى السياسة البيئية.

ولأن الأخلاق التي صاغها الإنسان على امتداد تاريخه لم تلحظ في قاموسها طريقة للتعاطي مع الكائنات الأخرى وحفظ حقوقها إلا في ما ندر، فقد رأى المؤلف أنه لا بدّ من صياغة فلسفة بيئية وأخلاق بيئية جديدة يضع معها الإنسان حداً لتسلّطه على الطبيعة وعلى باقي الكائنات، ويعترف بأن الكائنات الحية شريكة له على هذا الكوكب وليست كائناتٍ للاستعباد.

لقد آن الأوان لتصحيح العلاقة بين الإنسان والطبيعة؛ آن الأوان لأن نسمي من يرتكب جريمةً بحق البيئة مجرماً بيئياً؛ وآن الأوان لأن ننتصر لأنسنة العلم وأنسنة الاقتصاد، ولأن نبتكر طرقاً جديدة لممارسة الحياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى