مقالات

حركة الترجمة و المنهج العلمي عند مفكري الإسلام ( 2 ) د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

د. أحمد الزبيدي

المنطق الأرسطي في بلاد المسلمين:

 نَشَطتْ حركة الترجمة والتأليف بشكل عام، وحركة الترجمة والتأليف في ميدان “الفلسفة اليونانية” بشكل خاص؛ في صدر الخلافة الأموية (40 – 130)،وكانت باكورة الترجمات كتب أرسطو؛ “في المنطق”،وكتاب  المدخل إلى علم المنطق “،و مترجم هذه الكتب هو عبد الله بن المقفع (106 – 142 ه)، وكان يتقن الفارسية، ويحذق العربية، ويثقف الكتابة فيهما ، فترجم إليها أروع ما في الفارسية من كنوز تاريخية، وأنفس ما في الهندية من درر أدبية ” ‌كليلة ‌ودمنة” ، وكان من رؤوس الكُتّاب، وأئمة الآداب، وذوي العقول والألباب.

وقد هيأت ‌حركة ‌الترجمة وما صاحبها من أمشاج تيارات فكرية وثقافية غوغائية، في خلق مُناخاتٍ انعكست على الفكر الديني الإسلامي، وخروجه عن سكته، وعزله عن بيئته الحضارية الخاصة، واشتجاره بحضارات وثقافات مجاورة، كان لها أسوأ الأثر في ظهور العديد من الفرق الإسلامية، ممّا سيحيي بعدُ كثيرًا من الفتن،ويخلق كثيرًا من المحن في بلاد الإسلام والمسلمين، فظهرت فلسفات غريبة، وأفكار منحرفة رهيبة، وعقائد فاسدة عجيبة؛ من كتب اليونان، واليهود، والنصارى وساسان، وغيرها من الملل والنحل والديانات من  نظريات فاسدة، وعَقْلِيَّات بَاطِلَةُ؛ في أصل الكون، والكلام عن مبدأ الأرواح ومصيرها، والتخبط في الأسماء والصفات وتأويلها.

وتسارعت ‌حركة ‌الترجمة، حتى بلغت ذروتها في عصر المأمون حين عربت ألفاظ الفنون؛ من  طب، وطبيعة، وكيمياء، وفلك ورياضيات،  و إن الحديث في هذا  لذو ‌شجون!

 وإلى يوم الناس هذا ، ما يزال كثير من هذه الألفاظ صالحًا للتعبير عن هذه العلوم .

وقد اختلف الباحثون في تحديد اسم اللغة التي ترجمت عنها الكتب، أيونانية هي أم فارسية؟ وهو بحث لا طائل تحته.

ثم درج على خطى ابن المقفع مترجمون؛ أمثال إسحاق بن ‌حنين ‌بن ‌إسحاق العباديّ، ويعقوب بن اسحق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري، وآخرون.

وبعدَ لَأيٍ، استقرت حركة الفتوح الإسلامية، في البلاد التي ثُقِفَتْ فيها الفلسفة اليونانية؛ كالشام، ومصر، وفارس ، والعراق، والبلاد الفلسطينية.

 وما أن وضعت الحرب أوزارها، وخفضت الْأُمُور إزارها،  واستصرخت كل أمة أنصارها، حتى بدأ الجدال الفكري يحتدم،والصراع الثقافي يضطرم، بين ناشري الإسلام، وبين الداخلين، أو المتلبثين في الدخول فيه!

فقد كانوا أصحاب ديانات مختلفة،وعبادات متباينة؛يهودية ونصرانية، ومجوسية، وصابئة، وبراهمة، وغيرها،فما لبث أن ظهرت دياناتهم القديمة وما لبث أن ظهر التثليث والشريك، وانطمست في نفوسهم آيات التوحيد، فأهاجهم الدينُ الجديد،ورفعُ لواء التوحيد،فنهدوا يثيرون الشبهات،وينبشون الأباطيل والترهات، ويهيجون المسلمين في عقائدهم ودينهم، ويقعدون لهم في الطرقات!

ورد المسلمون على ذلك،بأن أقبل المثقفون منهم على قراءة الكتب الفلسفية، يتسلحون بها ضد خصومهم،وحرصًا على نصرة دينهم، وشغفًا في الرد على أباطيلهم.

وأذكت جذوة الجدال، مساواة الإسلام بين معتنقيه،ما جعل الناس يدخلون أفواجا فيه.

كذا انتشار الحرية الفكرية، والحرية الدينية التي ينشدونها، ويروجون لها، تمهيدا لضرب الأحكام الشرعية على حسب أهوائهم.

في المقابل أقبل المسلمون على الثقافات الأخرى، ينهلون من معينها؛ يدرسونها، ويعلمونها، بهدف الدفاع عن الإسلام، والرد عن حياضه أمام الأفكار والشبهات الوافدة !

فكان من أوائلهم  ‌واصل ‌بن ‌عطاء الغَزّال (80 – 131 هـ)، من أئمة البلغاء والكلام، ورأس المعتزلة والاعتزال.

فكان في علم الكلام والاعتزال من المحققين، وزبدة الزبدة من ‌أهل ‌التَّمْكِين،  وكلامه كلام من يقتدى به  من الأساطين.

 وَهُو مَنْ نشر مذهب ” الاعتزال ” في الآفاق: فبعث من أصحابه: عبد الله بن الحارث إلى المغرب، وحفص بن سالم إلى خراسان، والقاسم إلى اليمن، وأيوب إلى الجزيرة، والحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية.

وخلاصة الأمر؛أن المسلمين عرفوا المنطق الأرسطي مبكرا، ووقفوا تُجاهه طرائق قِددا،وأهواء مختلفة،وأحزاب متفرقة، وطبائع مُتَشَتِّتَة، وشهوات غالبة.

أما القِدة المؤمنة به، فهم فلاسفة الإسلام، أمثال ابن رشد، والفارابي، وابن سينا الهمام .وهو عندهم –كما قلنا- قانون العقل الذي لا يرد،ودستوره الذي لا يصد، وأن أحكامه ثابتة، وقضاياه مسلمة، وان أقيسته تورث في القلب الجزم واليقين!

 والحقيقة، أنهم ليسوا إلا شُرّاحًا له ومريدين، وامتدادًا لِسلفهم من الإسكندريين المتأخرين.

وصورة جدبدة من صور المشائين، أو الأفلاطونيين المحدثين.

وأما القِدة الكافرة به، والمنكرة له، فهم فريق من الأصوليين، وعصبة من المتكلمين، والمناطقة المتأخرين، فقد رفضوا جزءًا من منطق أرسطو، وفي نفس الوقت أضافوا أبحاثًا خاصة بهم، وهؤلاء هم الشراح الإسلاميون الرواقيون.

وثمة فريق وسطٌ بين الفريقين؛فريق المتكلمين والأصوليين الأولين، حيث استفاد من الجوانب القوية في منطق أرسطو، ورفض الجوانب الضعيفة فيه، وشيد لنفسه منطقًا جديدًا في جوهره ومضمونه، يعبر عن روح الإسلام وحضارته.

أما الصوفية فإنهم رفضوا المنطق، ولم يقبلوا أي صورة من صور التفكير النظري، وشذ عنهم السُّهروردي المقتول، حيث سعى بجد للتوصل إلى منطقٍ جديد بواسطة الذوق، وقد سمى كثيرًا من أبحاثه الجديدة “ضوابط إشراقية”.

وفي ما يأتي من مقالات إن شاء الله نتقصى مقالةَ كل فريق ممن ذكرنا آنفًا، كي نقف معًا على الدوافع الحقيقية وراء نقودهم للمنطق الأرسطي، ونرى أي فريق منهم تمثلت فيه روح الإسلام وحضارته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى