مقالات

“الأيام” كتاب طه حُسين صورة كفاح شابٍّ فقد البصر منذ الصغر د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 

 “الأيام” كتابٌ في جزأين لطيفين؛ أبدع صاحبه في تصوير صباه بأدق التفاصيل، وأعذب الأقاويل، ورسم فيه حياة المجتمع المصري بأدق التفاصيل وأعذب الأقاويل ورسم فيه حياة المجتمع المصري أجمل تصوير بأدق تعبير.  صدر الكتابُ لأول أمره ففتن الناس ،فأقبل إليه المترجمون ينقلونه إلى لسانهم، ويزيدون في إحسانهم، وقد أحسن كراتشوفسكي أستاذ كرسي الأدب العربي في جامعة “ليننجراد” إذ أشرف على ترجمته بنفسه، وأعانته الأديبة الفلسطينية كلثوم فاسيلفا، التي وقفت عمرها على نقل نفائس الأدب العربي إلى الروسية، ولكن كيف رجع الدكتور إلى ألفاف ماضيه، لينثر ما فيه!.  صدر كتاب “الشعر الجاهلي” سنة 1926م  فثار عليه الأزهر ، وفريق من النواب والأعيان، مما صيَّر الكتاب وصاحبه هدفًا للناس، ومرمى للجلاّس. ولم يكن الدكتور بمعزل عما يُحاكُ ضده، فأهمه ذلك، وكاد يورده المهالك، وزاد الطينُ بِلَّة عدم رده، والتزامه بوعده، أو بالأحرى منعه من الرد من قبل شخصيات كانت تسانده وتعاهده وهم: “عدلي يكن، وعبد الخالق ثروت ولطفي السيد”، وكان همهم الأساس أن تمر العاصفة بلا تثريب ولا بأس ، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا ألزم طه ومريدوه الصمت وعدم إهاجة الناس. قال الحسن بن هانيء (أبو نواس) :

‌مُت ‌بداء ‌الصمت خير   

لك من داء الكلام

إنما السالم من          

ألجم فاه بلجام

فما كان من طه حسين إلا أن أطاع أمرهم، وأخذ رأيهم، فأمسك لسانه، وعرى حصانه ، فلبِثَ في بيته ‌مُدّةً، يُكابِدُ الشِدّة، ويزجي أياماً مسوَدّةً. إلى أنْ رأى تَماديَ المُقامِ. من عَوادِي الانتِقامِ، وكأن لسان حاله يقول ما قاله أبو العلاء المعري :

يَحسُنُ مَرأى لِبَني آدَمٍ          

 وَكُلُّهُم في الذَوقِ لا يَعذُبُ

أَفضَلُ مِن أَفضَلِهِم صَخرَةٌ   

  لا تَظلِمُ النَّاسَ وَلا تَكذِبُ

و أبرز الذين حملوا لواء الهجوم عليه؛ مصطفى صادق الرافعي، و”الخضر حسين”، والشيخ عبد المطلب مُسَعِّرُ الحرب وجالب الهموم، وكان فارس جريدة “الأهرام”!

و ظلت الجرائد تنوشه؛ وتحاول أن تجتث شروشه، وترسل له الرسائل،وتنسب إليه الرذائل، والرجل لا يبرح موقفه، نادمًا على سوء تصرفه، لا يُسمح له بالدفاع عن نفسه، وهو الرجل ‌المناظر الأريب، والعراعرِ الأديبْ، والبارع اللبيبٍ، فماذا يصنع، وكيف يدفع؟ لم يجد أمامه إلا الهرب إلى  فرنسا يغريه ‌البالُ الخِلْوُ، والمرَحُ الحُلوُ، بأنْ يَقصِدَ فرنسا ليصْطافَ ببُقعَتِها، ويسبرُ رَقاعَةَ أهلِ رُقعتِها، فأفرغ إليْها إسْراعَ النّجْمِ، إذا انْقَضّ للرّجْمِ ! وهنالك خطرت له فكرة الكتاب،ففرغ منه في أقصر مدة، ثم أرسله إلى صديقه “العبادي” ليجيزه عليه ويرده ، وقد فعل.  خرج الكتاب إلى القراء،  فرأوا فيه أعجوبة الأعاجيب، وسيرة تأخذ بالتلابيب، ففيه جوانب مجهولة من حياة العميان، بأسلوب ينضح بالصراحة والإتقان، فهو يعترف بأنه كان في طفولته يجلس من أبيه ومن سُمَّاره مَزْجَر الكلب؟ وفيه أنه  كان يرى الدنيا بيديه، فيعبث بالنعال الموضوعة حول دكة معلم الأطفال، ثم يمعن في لمسها وتقليبها واختبارها، حتى يضبط ما فيها من خروق ورقاع؟ ولكن ما الذي يحوجه إلى النص على ذلك، وعلى سعة ذمته، وإعوازها الطهر، وإحواجها الإبراء -كذمة “العريف-“، وأنه كان يرشو ويرتشي بلا تحرج ولا استحياء؟ وكيف يجوز له أن يهجو إخوته، وأن يُعرض بجَدِّه  وجَدَّته، وأنه كان يستغفل أباه، ويعيبُ أخاه، وأنه عانى الاضطراب والخبال، إلا أن يكون رجلاً صادقًا لا يهاب!  على كل حال، إن من يقرأ كتاب “الأيام” يجد طفولة غير مبرأة من العيوب، بل تخللها كثير من الآثام والذنوب، فطه في “أيامه”-كما حدث عن نفسه- طفل مداور ومخاتل ومخادع، وهو في كل ذلك ذكيٌّ بارع، يصف نفسه كما هي؛ فقد كان نَسِيًّا أو  نَسْيانَ، أي كثير النسيان، وطالما سبَّبَ ذلك له الخجل والحرج، وعدل عن إخبارنا بأنه كان يحفظ ما يسمع، ويفهم ما يُقشعْ، ولو فعل لصدقناه، فقد وقر في وجداننا شيوع الذكاء والحفظ في العُميان، ولكن الرجل أبى إلا أن يكون صادقًا مع نفسه والقراء. فهو بذلك يذكرنا بالغزالي في “المنقذ من الضلال” وابن خلدون في”رحلته ” وروسو في اعترافاته !

 قال زكي مبارك: “أما أذناه فهما طويلتان، وقد حدثنا أنه كان يمدهما مداً ليزيدهما طولاً إلى طول، عساه يستوعب ما يدور حواليه من أقوال وأخبار وأقاصيص، وأما يداه فقد قويت فيهما عضلات اللمس إلى أبعد الحدود، ألم يحدثنا أنه كان يعرف الناس بنعالهم لكثرة تقليبه في النعال”!

يا قومُ أذني لبعض ِ الحي عاشقة ٌ

  و ‌الأذُنُ ‌تعشقُ ‌قبلَ العين ِأحيانا

قال الناقد الكبير  الراحل إحسان عباس:      ” وكتاب “‌الأيام ” صورة واعية للصراع بين الإنسان وبيئته،..وقد زعم بعض النقاد أن ‌كتاب “‌الأيام”، ضيق الأفق، محدود الجوانب، فقير في المادة العلمية، قصره كاتبه على وصف حياته في القرية، وقد رد عنه نقاد آخرون هذا الزعم واستبعدوه، فالكتاب صورةٌ رائعةٌ للقرية المصرية بما فيها، و بمن عليها، فضلًا عن كونه في نفس الوقت صورة رائعة أيضًا لكفاح شابٍّ فقد البصر منذ الصغر، ولكنه ناضل في حياته حتى أصبح ملء السمع و البصر!.

وخلاصة القول؛ فإن كتاب “الأيام” غلب عليه الصدق، ولعل إقبال القراء على قراءته أثر ذلك ودليل عليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى