مقالات
لُغَة الضاد.. وطنٌ وسيدة اللغات


أُثِرَ عن العرب قولُهم :”العربيةُ لغة الضاد”، يريدون بذلك اختصاص لغتهم بهذا الحرف من دون غيرها من اللغات، وأكد هذا المعنى ابن جني “ت 392ه” بقوله :”اعلم أن الضاد للعرب خاصة”.
كذلك نقلوا عن الأصمعي قوله: “ت 316ه”: “ليس للروم ضاد”.
وخلد المتنبي هذا المعنى بقوله:
وبهم فخرُ كلِّ من نطق الضاد
وعوذُ الجاني وغوتُ الطريدِ
قال تلميذه ابن جني (سر صناعة الإعراب):” فأما المتنبي، فذهب إلى أنها للعرب خاصة”. وفي موروثنا الثقافي حديث، اغترَّ به الناس وظنوه صحيحًا، وهو: “أنا أفصح من نطق بالضاد” صلى الله عليه وسلم ، والحديث وإن كان معناه صحيحًا، فلا أصل له عند محققي الحفاظ. قال ابن الجزري: (النشر في القراءات العشر 1/ 219 ) : “والضاد… ليس في الحروف ما يعسر على اللسان مثله”.
ولا غرو في ذلك، فإن التشابه الصوتي بين الحرفين أعسرَ نُطقهما، قال أبو حاتم السجستاني (المذكر والمؤنث ص 25)، “ت 255 ه”: من العجمة أن تجعل الضاد ظاء، والظاء ضادا” .
وأول حادثة وقع الخلط فيها، نقلها لنا التوحيدي في كتابه: (البصائر والذخائر، 8/ 185). قال رجلٌ لعمر: أيضحّى بالضّبي، فقال له عمر: قل: الظّبي – بالظاء، قال: إنّها لغةٌ، قال: انقطع العتاب بيني وبينك!
وسجل الجاحظ لنا في كتابه: (البيان والتبيين،2/ 146) حادثة أخرى، قال: كان رجل بالبصرة له جارية تسمى ظمياء، فكان إذا دعاها قال: يا ضمياء، بالضاد. فقال ابن المقفع: قل: يا ظمياء. فناداها: يا ضمياء. فلما غَيَّر عليه ابن المقفع مرتين أو ثلاثًا قال له: هي جاريتي أو جاريتك؟
وقد علق نصر بن سيار على هذا بقوله: “لا تسم غلامك إلا باسم يخف على لسانك”.
قيل لشريح : أيضحى بالضبي ؟ قال: وما عليك لو قلت: أيضحى بالظبي؟ قال: إنها لغة بالكسر، قال: وما عليك لو قلت أنها لغة؟ قال: قد تعثر الجواد بالتأنيث، قال شريح: قد ذهب العتاب .
وسدًا للذريعة في نطق الضاد ظاء، فقد صنف العلماء مصنفات أربت على التسعين.
ولا يفهم أحد أن العرب كانوا لا يفرقون بين الضاد والظاء، فإن الكتابة في قريش، فرقت بين الصورتين. قال الدكتور إبراهيم أنيس: “لا يخالجنا … شك في أن العرب القدماء كانوا في نطقهم يميزون هذين الصوتين”.
و يرجع سبب الخلط فيهما؛ إلى اشتراكهما في بعض النواحي الصوتية، كما قرر سيبويه.
ومع هذا فإن لغة الضاد لغةٌ شريفة، عاليةٌ مُنيفة.
فلا حياة لأمة بدونها. قال مصطفى صادق الرافعي في كتابه: (وحي القلم 3/27) :” وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المُستعمَرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد، أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا؛ وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع”.
ولهذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ”.
وأمة بلا لغة؛ أمة لا عقل ولا مروءة لها.
ومن أمعن البصر،وأدار النظر، في وصية أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه- عَلِمَ فضل اللغة؛ وارتباطها بالأخلاق والدين.
ولقد عرف أهمية اللغة العربية وقيمتها ومبلغ قدرها من يقول:
يُجاملك العرب النازحون
وما العربية إلا وطن
وأن نبيهم واحد
نبيُّ الصواب، نبيُّ اللَّسَن
ورحم الله شوقي، فاللغة وطن وأي وطن!
وقد عَرف مكانتها أيضاً الفيلسوف الفرنسي “باسكال”، حين عبر عن حبه لها بقوله: “وطني هو اللغة الفرنسية”، وقد سبقهما إلى هذا المعنى الشريف،والفهم اللطيف، الإمام أبو الريحان البيروني (440ه )، الذي تضلع بعدد من اللغات؛ الفارسية، و السريانية، والسنسكريتية، والصُغْدِية، أما العربية فقد أصفاها بحبه وعشقه، فكانت حبيبته التي ملكت عليه لبه وقلبه،وكان يعشقها عشق أبي دلف جاريته جَنان.
أُحِبُّكِ يَا جَنَانُ وَأَنْتِ مِنِّي
مَكَانَ الرُّوحِ مِنْ جَسَدِ الْجَبَانِ
وَلَوْ أَنِّي أَقُولُ مَكَانَ رَوحِي
خَشِيتُ عَلَيْكِ بَادِرَةَ الزَّمَانِ
قال – رحمه الله- في الآثار الباقية: “لقد نقلتُ سائر فنون العلوم إلى اللغة العربية، وقد أخذتْ هذه اللغة بمجامع قلوبنا، واستولى سحرُها على ألبابنا، وإن كان كلّ قوم يستعذبون لغتهم لاستعمالهم إيّاها كلّ يوم، وعندما أتأمّل في لغتي أجد أنّ كلّ ما يُترجم إليها يبدو مسيخا غريبا، على حين أنّ هذا الفنّ نفسه إذا تُرجم إلى اللغة العربية يبدو جميلًا طبيعيا، أقول هذا مع أنّ اللغة العربية ليست لغتي الأصلية”. وكان يفاخر بالعربية فيقول: “لأن أُهجى بالعربية أحبّ إلي من أن أُمدح بالفارسية”.
هِجَاؤُكَ يَشْفِيني وَإِنْ لَمْ تُبَالِه
وَحَسْبيَ حَظَّاً أَن أَنَالَ شِفَائِيَا
فانظر- يا رعاك الله- كيف لامست العربية تلك الأفئدة، وخالطت تلكالألباب المتّئدة، وكيف شَرِبت رحيقَ امتياحهِا، وطربتِ بأغاريد امتداحهِا..!.
وكيف سحرت بجمالها العقول، وفتنت بذكائها ربات الحجول!
وكمْ مُلَحٍ لي خلَبْنَ العُقولَ ، وأسْأرْنَ في كُلّ قلْبٍ رَسيسا
يقول ابن منظور في سبب تصنيفه “لسان العرب” : “…فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفُلك وقومه منه يسخرون”. قاله – رحمه الله- منذ سبعة قرون عن حال العربية .. فماذا نحن اليوم قائلون، وماذا نحن فاعلون..!.
ويقول الإمام ابن الأثير: “اللغة العربية سيدة اللغات، وأنها أشرفهنَّ مكانًا، وأحسنهنَّ وضعًا”.
وللمستمع أن يقول: كيف لا تكون كذلك? وقد ختمت اللغات ، فنفت منها القبيح ، وأخذت منها المليح?!
ومن أجمل ما قيل في العربية:
هام الفـؤاد بروضـك الريان
أسمى اللغات ربيبة القرآن
وقال بعض أهل العلم:
حفظ اللغات علينا
فرض كحفظ الصلاة
إذ ليس يحفظ دين
إلا بحفظ اللغات
قال الأستاذ محمود محمد شاكر –رحمه الله-:” إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة … هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. أنظر إلى المنفلوطي، والرافعي، وشوقي، وحافظ، والبارودي، والزيات، كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلّا لأنهم نشئوا وقد حفظوا القرآن أطفالًا، فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرَّت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء “.
أما السلف فقد بلغ من اهتمامهم بالعربية أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم، أو الكلمة من الأدب، وهو في البلد العجم والعرب ، فيكتبه اللِّخَافِ، والرِّقاع والعُسُبْ،-النخل- ؛ مبادرة للأجل،وطمعا في نيل الأمل.
ما أسمَعَ الآمِلَ رَدّاً ولا … ماطَلَهُ والمطْلُ لؤمٌ صُراحْ
ولا أطاعَ اللهْوَ لمّا دَعا … ولا كَسا راحاً لهُ كأسَ راحْ