د. داود سليمان
في الحلقة السابقة قدمنا رؤيتنا لفهم توجيهات الآية القرآنية الكريمة: “سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ” (يس:٣٦) ، وفي هذه الحلقة نواصل التأمل في توجيهات الآيات القرآنية، ونتناول الآية الأولى من سورة النساء: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” (النساء: ١) التي وردت فيها عبارة: “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا”، وسوف نحاول إلقاء الضوء على توجيهات هذه العبارة وإرشاداتها العلمية الموضوعية بشيء من التفصيل وفق ما نعتقد بما توجه إليه وترشد به من مفاهيم علمية، حيث باعتقادنا أن استشراف توجيهات هذه الفقرة وإرشاداتها، ربما أنها قد أعيت الكثير ممن حاولوا تفسير آيات الذِّكر الحكيم، سواء منهم القدامى الأفاضل، أو المعاصرون، فمعظم المفسرين القدامى، وكثير من المعاصرين الذين حاولوا تفسير هذه الفقرة من الآية الكريمة، “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا”، قد ركزوا في تفاسيرهم على أن النفس الواحدة تعني “آدم” عليه السلام، وأن زوج تلك النفس، هي “حواء”، وأنها، “أي حواء” قد خلقت منه (من آدم)، حيث جاء بهذا الخصوص ما يلي:-
* إن حواء قد خلقت من أحد أضلاع آدم عليه السلام، وبتوضيح أكثر، من ضلعه الأيسر، من خلفه، وهو نائم؛
** إنَّ حَوّاءَ قد خُلِقَتْ مِن جُزْءٍ مِن آدَمَ؛
* إنَّ حَوّاءَ قد خُلِقَتْ مِن بَقِيَّةِ الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنها آدَمُ؛
* إن حَوّاءَ قد فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِن ضِلْعِهِ (من ضلع آدم).
لا شك في أن هذه الأقوال قد ركزت فقط على ظاهر المعنى اللغوي، ولم يتبن أصحابها توجيهات هذا المقطع من الآية الكريمة وإرشاداته العلمية الموضوعية، فجاءت تفاسيرهم خالية من التأمل في توجيهات الكلمات والعبارات والإرشادات العملية التي تضمنتها الآيات، ونحن لا نعتبر ذلك قصوراً من أولئك الأفاضل، لأن المعرفة العلمية المؤكدة على المستوى الدقيق (المستوى الجزيئي) لبناء الجسم الذي سيصبح كياناً حياً لم تكن متاحة لهم آنذاك؛ أما وقد أصبحت المعرفة العلمية الرصينة ذات الشأن بكيفية نشأة الحياة على سطح كوكب الأرض مُيَّسَرة الآن لمن أراد أن يتفكر في خلق السماوات والأرض، وبَعْث الحياة على سطح كوكب الأرض، فإنه غير مبرر بقاء المرء الذي يريد استشراف توجيهات آيات الذكر الحكيم وإرشاداتها العلمية الموضوعية ضمن إطار ما قدمه الأقدمون، أو المعاصرون الذين رددوا ما قاله الأقدمون.
في هذه الحلقة من التأملات نأمل في تقديم مفهوم علمي موضوعي لما توجه إليه وترشد به العبارة: “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا”، وسوف نرى من خلال ما سنعرضه من بيان، أن العبارة التي ذكرت في إحدى التفاسير: “فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِن ضِلْعِهِ” التي تشير إلى أن حواء قد خُلقت من نفس آدم عليه السلام، هي أقرب الأقوال إلى الصواب على المستوى الجزيئي لخلق حواء من نفس خلقة آدم المادية، وليس فقط المعنوية. ولكي يكون التأمل علمياً وموضوعياً، يجب أن يراعي أن كُلَّ كلمة، أوعبارة وردت في الآية الكريمة لها محتواها العلمي ومدلولها الموضوعي الخاص بها، فالعبارة “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا”، نفهم منها أنها توجه المرء، وترشده إلى ما يلي:-
* إن عملية الخلق، تعني إنشاء الشيء أو إيجاده من العدم؛ وبتعبيرٍ آخر، فإن الخلق هو: الإيجاد على تقدير توجيه حكمة الله سبحانه وتعالى، والأصل أن الإيجاد هو إنشاءٌ أو خلقٌ على تقدير من غير مثال سابق، وبالتالي فإن عبارة “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ”، لا بد أنها تعني بداية وجود “نفس أولية” قد خلقها الخالق، الله سبحانه وتعالى، من المواد الكيميائية العضوية الحيوية البسيطة التي احتوتها تربة الأرض وطينها، وأن تلك النفس الأولية سيكون بإمكانها أن تصبح بداية لخلق/لإيجاد مخلوق آخر (نفس أخرى) على تقدير توجيه حكمة الله سبحانه وتعالى، وأن عبارة “وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا” لا بد أنها تشير إلى أن المخلوق الآخر، الذي سيخلقه الله سبحانه وتعالى، على تقدير من غير مثالٍ سابق، سوف يكون مناسباً أو متوافقاً من حيث المواءمة كزوجٍ للمخلوق الأول (المخلوق الأولي، أو الابتدائي)، لإنشاء الكيان المادي مكتمل البناء الذي سيُكَوِّن مع المخلوق الابتدائي/الأولي، الزوج المهيأ للولوج في عملية النمو والارتقاء، بما يحقق سيادة مبدأ الزوجية في عملية الخَلْق بأكملها للكائنات الحية.
وللعلم فإن مبدأ الزوجية ليس مقتصراً على الكائنات الحية، بل إنه المبدأ العام السائد في عملية الخلق لكافة الموجودات في الكون، ابتداءً ببناء أدقها، بناء الذرة.
* وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات: ٤٩)؛
* وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (النجم: ٤٥)؛
* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (النبأ: ٨)؛
فما هو المخلوق الأولي/الابتدائي الذي سيُعتَبر مصدراً لخلق المخلوق الآخر (الثاني أو الثانوي) بحيث يأتي ذلك المخلوق متوافقاً مع المخلوق الأولي/الابتدائي لبناء الزوج المهيأ للولوج في عملية النمو والارتقاء، لتحقيق سيادة مبدأ الزوجية في عملية خلق الإنسان؟
لقد أصبح معلوماً الآن، أن الجزء الذكري (الحوين المنوي)، أو الجزء الأنثوي (البويضة الأنثوية)، ليس بمقدور أيٍّ منهما بمفرده إنشاء جَنينٍ لكائنٍ حَيٍّ مهيئٍ لممارسة متطلبات الولوج في عملية النمو والارتقاء، لماذا؟ لأن كلًا منهما يحتوي ضمن بنائه/ تركيبه الجزيئي نصف عدد الوحدات (الكروموسومات) البنائية لضفيرة (جديلة) الجنين مكتمل البناء الجسدي المهيأ لاستقبال نفخة الروح من أمر الله الخالق سبحانه وتعالى، ليتمكن من الولوج في عملية النمو والارتقاء، فلكي ينشأ ذلك الجنين لا بد من التقاء الجزأين الذكري، والأنثوي واختلاطهما (تزاوجهما) معاً، لإنشاء/خلق السلسلة الحيوية للخلية الأولى للكائن المادي مكتمل البناء الجسدي، تلك الخلية التي تحوي في نواتها شريط (مزدوج الضفيرة، أو الجديلة) لما يعرف حالياً بالحمض النووي (جديلة/ضفيرة أل- DNA). تلك الجديلة/الضفيرة التي تحتفظ بكافة مواصفات بناء جسم الكائن الحي.
ماذا يعني هذا الطرح؟؟
باعتقادنا أن النفس الواحدة: “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ” أنها عبارة عن إحدى شرائط (حبلي) جديلة أل- DNA التي تنشأ من التفاف حبلين (شريطين) من القواعد الأساسية حول محورهما الرأسي لتكوين شريط (لولب أو ضفيرة أو جديلة) أل – DNA، الذي يشبه السُّلَّم مزدوج القائمتين الملتوي حول محوره الرأسي، حيث يتركب كل حبل من مجموعة القواعد الأساسية: أدينين adenine (A)، جوانين guanine (G)، سيتوزين cytosine (C)، ثايمين thymine (T) المتصلة مع بعضها الآخر بهيئة تكاملية، بحيث يأتي اتصال القاعدة أدينين (A) بالقاعدة الثايمين (T) ؛ واتصال القاعدة الجوانين (G) بالقاعدة السيتوزين (C)؛ ما يعني أن كل قاعدة لها زوجها الخاص بها، وهو ما يحدد ترتيب أو تسلسل أزواج القواعد في بناء شريط (ضفيرة) حبل الحمض النووي، الذي يحدد بدوره الشفرة الوراثية لكل الكائنات الحية على سطح كوكب الأرض بكافة أنواعها.
والجدير بالذكر أن تماسك شريطي الحمض النووي بهذا البناء يتم من خلال ما يعرف بالروابط الهيدروجينية بين قواعد بناء طرفي الشريط، (وهي روابط قوية بالدرجة التي تحفظ لشريط الحمض النووي المحافظة على بنائه اللولبي، وضعيفة “بمعنى أنها سهلة الانفصام” بما يؤدي إلى إنشاء طرفين يمثل كل منهم مركزاً لنشأة لولبٍ آخر)؛ كما ترتبط كل قاعدة من تلك القواعد بمجموعة الفوسفات (PO4) ومجموعة السكر الخماسي المعروف بال- أرابينوز، حيث يشكل البناء النهائي لمركب أل- DNA شريطاً أشبه ما يكون بِسُلَّمٍ ملتوٍ، لتنشأ الضفيرة أو الجديلة مزدوجة الخيط، وهذه الجديلة (يمكن اعتبارها الجديلة الأم) لها خاصية الانفراج من أحد أطرافها إلى الحبلين المكونين لها، بحيث يصبح كل حبل مركزاً لبناء شريط جديلة جديدة، وتتكرر عملية الانفراج لبناء أشرطة جدايل جديدة تكون غالبيتها صورة طبق الأصل للجديلة الأم.
يقدر عدد القواعد الأساسية التي تتركب منها الجديلة البشرية بحوالي ثلاثة بلايين قاعدة.
وباعتقادنا أن الله سبحانه وتعالى، الخالق لكل شيء في الكون قد خَلَقَ/أنشأ الجديلة الأولى (الجديلة الأم) لمركب أل – DNA الخاص بكل مخلوق حيٍّ (وفق مبدأ الزوجية)، بما في ذلك الجديلة الأولى (أو الأولية) لأبي البشر آدم عليه السلام (وفق مبدأ الخلق أو الإنشاء من العدم) من المركبات الكيميائية الحيوية العضوية البسيطة التي تجمعت في جوف طبقة الطين على سطح الأرض. ومن تلك الجديلة الأولية (مزدوجة الحبل/الفتيلة من القواعد الأساسية) أنشأ الله الخالق حبلين/فتيلتين، يتكون كل منهما من سلسلة القواعد الأساسية ومجوعتي الفوسفات والسكر الخماسي، وأحدث في أحدهما (أو كلاهما) تغييراً بنائياً بما يؤدي إلى تكوين أشرطة متوافقة البناء الهيكلي لإنشاء الأزواج لبناء أشرطة أل- DNA الجديدة، التي سيكون البداية لنشأة مخلوقات متكاملة البناء الجسماني المادي، المهيأة لاستقبال نفخة الروح من الخالق الله سبحانه وتعالى، لتصبح مخلوقات حيًة قادرة على الاستجابة لمتطلبات النمو والارتقاء.
هذه الرؤية التي عرضناها، هي عبارة عن محاولة لفهم ما يوجه إليه ويرشد به شطر الآية الكريمة (النساء: ١): “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا”.
ننتظر من الإخوة المتابعين الاشتراك في الحوار، كلٍّ بقدر استطاعته لإثراء المعرفة.
للحديث بقية بإذن الله
زر الذهاب إلى الأعلى