مقالات

“قبل البدء فانتازيا ملحمية”رواية محمود جميل الرمحي عمل ثريّ بأفكاره العميقة ودلالاته الفلسفية و الروحية

شخصيات خيالية غرائبية وكاتب ينطلق من الواقع

البطل “حوران”: “سوبرمان” صنعه أسلافي قبل ستة آلاف سنة

محمود جميل الرمحي

قراءة: وائل الجشي

عنوان الرواية “قبل البدء فانتازيا ملحمية” للكاتب محمود جميل الرمحي، المنبثقة من الواقع بثوب “فانتازي” يجعلني قبل البدء في الكتابة أتوقف متأملًا أمام هذا العمل الأدبي بأفكاره السامقة والمنسوج بخيوط متمازجة من الواقع والفانتازيا التي أطل منها الخيال العلمي برأسه.

الفانتازيا كما هو معروف فضاء إبداعي يكسر قيود المنطق والشكل ويجنح إلى الخيال بدرجاته المتفاوتة، ويختلط فيه ما لم يحدث بما لن يحدث، وبتناول شخصيات خيالية غرائبية ، وهنا تمر في شريط الذاكرة الثقافية أعمال كثيرة مثل الملاحم الإغريقية والشرقية غيرها.

أول ما يلفت نظر القارئ والباحث في هذا العمل المتميز أن كاتبه في الأساس فنان تشكيلي نحات ومهندس معماري، وهذا البعد يضفي على عمله الأدبي عناصر جمالية من نوع خاص تثريه، ويجد القارئ نفسه مدعوًا إلى التأمل والتفكر في مواقف كثيرة في هذا العمل الراقي بلغته الأدبية المفعمة بسمو الفن وفضاء الأفكار والتساؤلات المنطوية على لون من النقد الاجتماعي والعمراني والصراع بين الخير و الشر .. الصراع العقل والوجدان إن صح التعبير.

للتعرف إلى الرواية عن قرب أكثر علينا أن نتخطى “عتبة” الكاتب ومنها:

“…   ضجر من نفسه المتكررة ، ومن شدة ضجره نبض نبضتين، من الأولى أشرق النور، ومن الثانية لد الظلام، حدث انفجار عظيم وانفصلا عن بعضهما،

انطلق النور فاردًا أجنحته الأربعة، فتشكل المكان.

لحقه الظلام ليمسح بروحه المعتمة كل أثر له،

من طرادهما ولد الزمان،

……….

………..

وفي صميم الوجود ولد الشوق،

ومن الشوق ولد الحب،

ومن الحب ولد الغفران والرحمة.

هكذا قبل البدء كانت الحكاية.”

بطل الرواية “حوران” تلقى على هاتفه النقال: “عزيزي سيد حوران، نذكركم بموعد محاضرتكم غدًا الإثنين 24 فبراير 2035  في تمام الساعة السادسة مساء بمقر جمعية إنقاذ” وبعد إطلالته على كورنيش أبوظبي وقباب فصر الإمارات وسرحانه بعيدًا في مياه الخليج العربي بلونها الفيروزي، تمتم مع نفسه: يا لها من مدينة عظيمة!…… ليكتب ردًاعلى الرسالة القصيرة بعبارتين: “سأكون في الموعد. شكرًا على تعاونكم”.

مواطن كثيرة تستوقف قارئ الرواية الغنية بشخصياتها وحواراتهم بأبعادها ودلالاتها هلى نحو ينقل القارئ إلى فضاء فسيح من الأفكار ، ويستشف قدرًا مما يشبه السيرة الذاتية للكاتب ممثلًا بالسيد جوران الشخصية الرئيسة في الرواية.. حوران المتمرد بنظراته الناقدة والطامحة وعباراته التي تنم عن رؤية فلسفية. مثلا  حواره مع يوسف رئيس قسم الهندسة وطوني رئيس قسم العمارة حول “مدينة المستقبل”:.”مدينة الأحلام” الذي تساءل فيه عن سبل مواجهة الكوارث نتيجة خطأ بشري أو فعل من الطلبيعة: “نحن لا نريد أن نحسن حياة الناس فحسب، بل علينا أن ننقذهم عند تعرضهم للخطر” وقوله ” الرفاهية وحدها لا تخلق السعادة، بل على العكس من ذلك فالكثير من الرفاهية يسبب التعاسة”.

لعل من أهم شخصيات الرواية التي تشغل بال القارئ كما تشغل بال “حوران”، شخصية “كريستوفر” ذي القدرات الخارقة الذي حول نفسه إلى غراب واقتنص غزالًا، والذي “رحل إلى المريخ لمراقبة الأرض ، ولتوفير الظروف المناسبة لانتقال البشر في حال أصبح الكوكب غير صالح للحياة، لكنه طيلة عشرة آلاف عام كان يصنع كائنات قاتلة ويبني جيوشًا آلية لغزو الأرض وتدمير كل ما سنبنيه في المستقبل” وهذا أسقط “حوران” الاقناع عن وجه “كريستوفر”: “بعد تلك المجادلة الحامية التي جرت بيننا في عشائنا الأخير قبل الطوفان الكبير ، أيقنت أنه هو من سيجسد قوة الظلام هذه المرة.”

الشخصية الثانية اللافتة في الرواية “سليماس” ومناماتها المتكررة التي ترى فيها شخصًا في مرحل عمرية مختلفة ،  و في الرسائل الثرية بالإشارات اللامعة، والمتبادلة مع صديقتها “سارة”تذكر “سليماس”في إحداها إلى “سارة” أغنية كانت ترددها في “الكرنك” في زيارتها مصر : “لا أحد يعيش إلى الأبد. ما الحياة إلا ومضة في حلم. اجعله حلمًا سعيدًا أيها الإنسان، وابن لنفسك بيتًا في الأبد. ليكن بيتًا سعيدًا في عالم بلا زمن ، ولا موت. اجعل قلبك خفيفًا كريشة في الميزان.”

شخصية ثالثة لا تقل أهمية في الرواية هي شخصية “كارلستون” أستاذ “حوران” وصديقه، وقد شكلا “ثنائيًا لفت انتباه الطلبة والأساتذة “بتوافقهما في التفكير وحب المعرفة والكشف، وفي أحد أحاديثه مع أستاذه يستجضر “حوران” يوم طلب منه عميد الكلية الحديث على خشبة المسرح أمام مئات الطلبة والأساتذة : “قلت لهم أيضًا ، بطلكم سوبرمان صنعه أسلافي قبل ستة آلاف سنة…. ” إلى أن يقول: “جميعنا أحباب الخالق باختلاف أجناسنا وألواننا.”

ويجذب “حوران” القارئ معه في نهاية الرواية بهيئة “حورس” بأجنحته الأربعة، حيث التحمت “سليماس”بجوفه وانضمت إليهما خيوط نورانية من جثامين رفاقهما الراحلين وفي نهاية الصراع الروحي بين الخير والشر ،”شاهد الناس في “باب إبل” والمدن المجاورة نجمًا ينطلق من قلب مدينتهم إلى قبة السماء.

في تلك اللحظة عندما كان ميرسو وفوغو ينطلقان كنجمين في اتجاه الشرق والغرب،التفتا ليلقيا نظرة الوداع الأخير على مدينتهما، شاهدا الهرم المقدس يتحول إلى كريستالة من نور تنطلق بسرعة الخاطر مخترقة عتمات الليل الأبدي إلى أعماق الكون السحيقة.”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى