مقالات

“الغناء اليمني مرّ دافئاً” لمؤلفه محمد عبدالوهاب الشيباني لوحة فنية استقت ألوانها من جبال اليمن ووديانها

قراءة: رفيق الرضي    –    الإمارات

رفيق الرضي

 

محمد عبدالوهاب الشيباني

 

لم يكن لدي أدنى فكرة عن محتوى كتاب “الغناء اليمني مرّ دافئاً”، للكاتب والباحث في الشأن الثقافي والفني محمد عبدالوهاب الشيباني، إلا أنني قرأت ما كُتب عنه بعد إصداره عن دار “مواعيد” للنشر. حاولت وقتها التواصل مع الكاتب الذي قرأت له مقالات – في منصة خيوط الإلكترونية – استفدت منها خلال إعداد كتابي “التُّراث الموسيقي اليمني”، نظراً لتداخل الشخصيات التي تناولها الكاتب وتناولتها في كتابي نقلاً عنه وعن غيره من الباحثين والمهتمين بالتراث اليمني.

وقبل الحديث عن الكاتب والباحث الشيباني، أود التطرق إلى منصة “خيوط” الإلكترونية التي اختطت لها منهجاً مغايراً لما تعودنا عليه عند تناول الشأن الثقافي والأدبي- باعتباره صفحات ثانوية – في المواقع الإلكترونية وقبلها في الصحافة المقروءة. اختارت منصة “خيوط” أن تكون لها رسالة هادفة، تتمثل في تعريف المنصة وإعلانها عن نفسها (خيوط: منصة إلكترونية مستقلة تقدّم محتوى إعلاميّاً ومعرفيّاً عن اليمن في سياقه المحلي، وارتباطاته في السياق الإقليمي والدولي. أسس منصة “خيوط” صحفيون وباحثون ونشطاء مدنيون، انطلاقاً من حاجة اليمني لنقل صوته من الهامش إلى متن الحياة المتصلة بالمشتركات الإنسانية والحضارية مع كل شعوب العالم).

وبالعودة إلى الكتاب، وصلتني نسخة منه بعد طول انتظار، توقعت أن استغرق وقتاً في قراءته، لكنني لم أتمالك نفسي وأنا أقلِّب صفحات الكتاب من مواصلة القراءة بشغف كبير لا يمكن وصفه، فقد شدني أسلوب الكاتب الشديد الانسيابية كجدول يتدفق عذوبة مع كل صفحة وكل أغنية وكل لحن تضمنه الكتاب الذي أراه عبارة عن لوحة فنية ريشتها الأغنية وألوانها الألحان التي تأخذ القارئ بين وديان تهامة، وهضاب حضرموت وسواحلها، ثم تحلق بالروح في سماء صنعاء وقبلها تمر بتعز والعدين، وفي رحلة لا تتوقف تذهب بنا إلى مدينة عدن وحاراتها وشواطئها.

لا أرى نفسي قادراً على إضافة الجديد إلى ما كتبته أقلام من سبقوني حول محتوى الكتاب، لكني كعاشق للوحة فنية، ومتيم بشيء اسمه الأغنية اليمنية أجد نفسي أكتب هذه الكلمات المبعثرة، دون أن أكلف نفسي عناء ترتيبها، فالعاشق للوحة الفنية ليس بحاجة إلى أن يرسم لوحة فنية أخرى تماثلها جمالاً، أو أن يكتب عنها قصيدة شعرية بروعة وعذوبة قصيدة مدهشة قرأها، بقدر أهمية استغراقه في جمالية اللوحة ومفرداتها وعذوبة القصيدة ومعانيها.

لفت انتباهي تفصيل الكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني حول بعض النجوم في سماء اليمن من شعراء وفنانين وملحنين، فعندما يخطر على بال الكاتب ويستوقفه ما قاله الراحل محمد مرشد ناجي: (الغناء والشعر يؤلفان وحدة متكاملة حيث أنهما يشكلان مفهوماً واحداً، على اعتبار أن العرب في العصور القديمة وحتى العصر الأموي، كانوا يطلقون لقب الشاعر على المُغنِّي، ويطلقون لقب المُغنِّي على الشاعر)، وحديثه عن شعراء لحنوا قصائدهم أمثال حسين المحضار، محمد سعد عبدالله وقبلهم أحمد فضل القمندان، والأمر ذاته في تجربة الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفضول”، والذي يقال إنه وفي الكثير من أغانيه التي أدّاها أيوب طارش، كان يتدخل وبوعي نافذ إلى بعض سياقات جملها اللحنية، ويروى أنه كان يدندن ويعزف من وقت إلى آخر، حسب روايات قريبين وأصدقاء.

نرى الإبداع ظاهراً في تجارب كهذه غنية في أرجاء اليمن، ولا شك في أن هناك المئات من التجارب الإبداعية لم تنل حقها في الخروج إلى النور، لكنها بلا شك تجارب إبداعية متجددة ومتفردة.

من جانب آخر، نرى الكاتب يتناول الأصوات الغنائية النسائية في اليمن (محاولاً تقديم جانب التحدي في مسيرة بعض المطربات اليمنيات التي عرضها كتاب (الأصوات الغنائية النسوية في اليمن) لمؤلفه الدكتور يحيى قاسم سهل، أراد منها الكاتب الشيباني “تقريب صورة المقاومة بالفن من أجل الحياة، التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها في وقتنا الراهن، كحاجتنا لاستعادة روح المدينة التي أتاحت لمثل هذه الأصوات أن تصل إلى الأسماع، بدون محاذير العيب والمحرم، ونقصد هنا روح مدينة عدن التي تتعرض هي الأخرى لتجريف فظيع لهويتها المدنية والثقافية).

وفي هذا الصدد يذكر الباحث الشيباني مدينة عدن كمثال لما وصلت إليه الهوية المدنية والثقافية من تجريف، لكون عدن كانت في منتصف القرن العشرين وما قبله درة الجزيرة العربية، وقد أورد الباحث عدداً من الأسماء الكبيرة التي ظهرت في عدن وكان لها تأثير كبير في الأحداث التي شهدها اليمن في الفترات التالية. ومن يقرأ عن فترة الخمسينات والستينات في عدن، يرى غزارة الإنتاج الأدبي والفني والإعلامي، وكيف كان الجميع يتسابقون إلى تشكيل الأندية والمجالس الثقافية والأدبية، وإصدار النشرات، والمجلات الثقافية، والأدبية. لم يعد الحال كذلك في زمن التشظي، وهو ما يحاول الباحث الشيباني وأمثاله من تقديم جوانب مضيئة من خلال العودة إلى الهوية المدنية والثقافية التي كانت سائدة مصحوباً بهما منهج التسامح والوعي الوطني والقومي.

وبعد مرور أسابيع قليلة على غياب الكبير أحمد الجابري، أجد في ما كتبه (الشيباني، 2023) إنصافاً لما قدمه أحمد الجابري من عطاء (لم أجد في تتبعاتي الاستماعية وقراءاتي المتواضعة، شاعراً غنائيّاً في اليمن كتب بمعظم اللهجات اليمنية بميزة وثقافة ووعي الشاعر أحمد غالب الجابري، فهو الوحيد الذي كسَرَ حلقات ثنائية الشاعر والفنان التي ارتبطت – في تاريخ الأغنية اليمنية – بالتقاربات الوجدانية والثقافية والجغرافية بين كاتب الأغنية والفنان).

وقد تناول الكتاب عددًا من الأعلام اليمنيين في مجالي الشعر والغناء، منهم محمد مرشد ناجي الذي غنَّى الألوان الغنائية اليمنية كافة و منها (اللحجي)، (العدني)، (التهامي)، وكان له تأثير كبير في انتشار الأغنية الصنعاينة، ومن أغانيه من كلمات الشاعر الكبير أحمد الجابري    “ على امسيري “:

(على امسيري على امسيري

 ألا بسم الله الرحمن

على امسيري على امسيري

 ولا مؤذي ولا شيطان

على امسيري على امسيري

 تخطِّي في درج أهلش

ألا يا مرحبا بش وباْهلش

وبالجمل اللي رحل بش

فرشنا ام وادي بالريحان

 ومن أجلش سرينا ليل

على صوت الفرح والدان

 ألا حيا ملى الوديان

ألا يا مرحبا بش وباْهلش

وبالجمل اللي رحل بش

سلام مني لمن أقبل

 على عيني وفوق الراس

قمر لا بان في المحفل

 سلب عقلي أنا يا ناس

ألا يا مرحبا بش وباْهلش

وبالجمل اللي رحل بش

ألا لصوا البخور والعود

 ورشوا الورد يا اهل ام بيت

وهاتوا لي معاكُم عود

 اباكُم ترقصوا في البيت

وفي بعض زوايا الكتاب ذهبت بعيداً في قراءتي لقصيدة “يا غُصن لابِس قميص” للشاعر الحميني الكبير القاضي أحمد بن عبدالرحمن الآنسي (المتوفى سنة 1241هـ)، التي وصفها (الشيباني، 2023) بأنها: “غدت تميمة عند معظم الفنانين اليمنيين، تغنى على ألحان متعددة، لكنها بقيت، وبتنوع ألحانها، قادرة على حفظ ديمومتها وسرعة نفاذها إلى إحساس المتلقي. ظهرت الأغنية في تسجيلات إبراهيم محمد الماس في عدن، وتالياً لدى أحمد عبيد قعطبي في جيبوتي، قبل أن تصير جزءاً من سياق الأغنية الصنعانية المعاصرة عند الأخفش، محمد حمود الحارثي وكثير من الفنانين بعد ذلك، من فؤاد الكبسي إلى حسين محب، الذي أداها بالروح الحارثية. لكن الفنان محمد عبده هو من حقق للأغنية انتشارها القوي خلال فترة الثمانينات لأسباب تتصل بتجديدها اللحني واستخدام آلات موسيقية متعددة مصاحبة لأدائها، والأهم اسم المطرب الرائج”.

وحتى لا أفقد القارئ متعة اللحظة، أتركه مع القصيدة،ناصحاً إياه بقراءة كتاب الباحث الشيباني، حتى يمنح روحه دفقة من العذوبة والأصالة والجمال:

يا غُصن لابس قميص                        اخضر مشجَّر  وطاس

لا زال عنك النما

يا مُبتسم عن عقيق

احمر وافصاص ماس

من صُنع رب السما

يا من ربش بالعيون

 الساجيات الحواس

وحل سفك الدما

قلبي رياضك ولك

 وسط السويدا غِراس

ومُهجتي لك حِمى

قُل لي متى نجتمع

 يا بابلي العيون

في سفح صنعا اليمن

فقد تغنَّى هزار

الرُّوض فوق الغصون

باْلحان تنفي الشجن)

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى