د. أحمد الزبيدي
*يزخر القرآن من أوله إلى آخره ببديع اللطائف القرآنية، ورفيع المعاني البيانية: فأينما يممت وجهك وجدت ذلك التناسق البديع، والتناسب الرفيع، بين سور القرآن وآياته وكلماته.
في حلقات هذه الزاوية نسلط الضوء على شيء من ذلك، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما تفسير “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري ومعاجم اللغة، وكتب الأدب، و كتب البلاغة، وكتب المتشابه اللفظي، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل” للخطيب الإسكافي،ودواوين الشعر، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة القريبة والبعيدة.*
“البقرة” (أ)
{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 2]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذلِكَ الْكِتابُ} وَفِيهِ مَسَائِلُ:
لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: المشار إليه ها هنا حَاضِرٌ، وَ “ذَلِكَ” اسْمٌ مُبْهَمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْبَعِيدِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ بأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، فإن اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بَعْدَ بَعْضٍ، فَنَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ “الْبَقَرَةِ” سُوَرٌ كَثِيرَةٌ، فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ السُّوَرِ؛ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى بَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الْأَعْرَافِ: 204] وَقَالَ حَاكِيًا عَنِ الْجِنِّ: { إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} [الْجِنِّ: 1] وَهُمْ مَا سَمِعُوا إِلَّا ْبَعْضَه.
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِقَوْلِهِ: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا} [الزُّخْرُفِ:4] فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: (ذلِكَ الْكِتابُ)، لِيُعْلِمَ أَنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ..
قال الطبري :” فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك بمعنى هذا؟ وهذا بلا شك إشارة إلى حاضر معاين، وذلك إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين؟ قيل: جاز ذلك لأن كل ما تقضى وقرب تقضيه من الأخبار، فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر، فهو كالحاضر عند المخاطب؛ وذلك كالرجل يحدث الرجل الحديث، فيقول السامع: إن ذلك والله لكما قلت، وهذا والله كما قلت، وهو والله كما ذكرت. فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقض، فكذلك ذلك في قوله: {ذلك الكتاب}، “ذلك ” يُشارُ بها للقريب والبعيد:
قد سَلَّمْنَا بأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ “ذَلِكَ” لَا يُشَارُ بِهَا إِلَّا إِلَى الْبَعِيدِ، بَيَانُهُ أَنَّ “ذَلِكَ”، وَ”هَذَا” حَرْفَا إِشَارَةٍ، وَأَصْلُهُمَا “ذَا” ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لِلْإِشَارَةِ، قَالَ تَعَالَى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الْبَقَرَةِ: 245] وَمَعْنَى “هَا” تَنْبِيهٌ، فَإِذَا قَرُبَ الشَّيْءُ أُشِيرَ إِلَيْهِ فَقِيلَ: هَذَا، أَيْ تَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ حَاضِرٌ لَكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْكَافُ عَلَى “ذَا” لِلْمُخَاطَبَةِ وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فَقِيلَ: “ذَلِكَ” فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَالغ فِي التَّنْبِيهِ لِتَأَخُّرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ “ذَلِكَ” لَا تُفِيدُ الْبُعْدَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، بَلِ اخْتُصَّ فِي الْعُرْفِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَصَارَتْ كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ فِي الْعُرْفِ بِالْفَرَسِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُتَنَاوِلَةً لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: إنا نحمله هاهنا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْبُعْدَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: { وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} إِلَى قَوْلِهِ: { وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ} ثم قال: { هذا ذِكْرُ} [الأنبياء: 24] وَقَالَ: { وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ} وَقَالَ: { وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] وَقَالَ: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} [النَّازِعَاتِ: 25، 26]. وقال: وَ { ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى} [طه: 17] أَيْ مَا هَذِهِ الَّتِي بِيَمِينِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قلت : ويؤكد ما ذكره الفخر الرازي تأويل عامة المفسرين وعلى رأسهم ابن عباس : قول الله تعالى: {ذلك الكتاب}، هذا الكتاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا ريب فيه}.
الرَّيْبُ: قَرِيبٌ مِنَ الشَّكِّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، كَأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ. تَقُولُ: رَابَنِي أَمْرُ فُلَانٍ، إِذَا ظَنَنْتَ بِهِ سوءًا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ” (صحيح)
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي قَوْلِهِمْ: “رَيْبُ الدَّهْرِ” وَ “رَيْبُ الزَّمَانِ” أَيْ: حَوَادِثُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [الطُّورِ: 30] وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا يَخْتَلِجُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَسْبَابِ الْغَيْظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ
وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قُلْنَا: هَذَانِ قَدْ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الشَّكِّ، لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ مُحْتَمَلٌ، فَهُوَ كَالْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَجَ بِالْقَلْبِ فَهُوَ غَيْرُ مَتَيَقَّنٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا ريب فيه}. الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِهِ مَظِنَّةً لِلرَّيْبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا.
وقال صاحب “الأنموذج”: “فإن قيل: كيف قال: {لا ريب فيه} على سبيل الاستغراق وكم ضال قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}
قلنا: معناه لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفي معناه نهي؛ أي: لا ترتابوا فيه، إنه من عند الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.
الْهُدَى: عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ “الْكَشَّافِ” : الْهُدَى هُوَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَفَسَادِ الْقَوْلِ الثَّانِي ، َأنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الْبُغْيَةِ مُعْتَبَرًا فِي مُسَمَّى الْهُدَى لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْهُدَى عِنْدَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، لِأَنَّ كَوْنَ الدَّلَالَةِ مُوَصِّلَةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ حَالَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ مُحَالٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} [فُصِّلَتْ: 17] أَثْبَتَ الْهُدَى مَعَ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: هَدَيْتُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا.
وكَوْنُ الشَّيْءِ هُدًى وَدَلِيلًا لَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلِمَاذَا جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَقَطْ؟
الْجَوَابُ: الْقُرْآنُ كَمَا أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَدَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَعَلَى دِينِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ، فَهُوَ أَيْضًا دَلَالَةٌ لِلْكَافِرِينَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ مَدْحًا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَانْتَفَعُوا بِهِ كَمَا قَالَ: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} [النَّازِعَاتِ: 45] وَقَالَ: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذِرًا لِكُلِّ النَّاسِ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ النَّاسَ لِأَجْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإِنْذَارِهِ.
زر الذهاب إلى الأعلى
كلام جميل وطيب ومتوازن
جزاك الله خيرا
كلام جميل وطيب ومتوازن
جزاك الله خيرا
تحياتي دكتور احمد واحترامي .خير ما تكلم فيه الناس هو القران الكريم وبيانه والتفكر به وخير ما فعلت فانت باحث لا يشق له غبار .افكار جميلة وممتعة ومفيدة ومهمة وكلام موزون . الله يعطيك العافية لما تقدمه من فائدة كبيرة للجمهور مع الحب والتحية والاحترام والتقدير تحياتي .مهند الشريف
السلام عليكم د. أحمد
جزاك الله كل الخير واعطاك الصحه والعافية
أتحفنا دائما بما هو جديدك