د. أحمد الزبيدي
لا جرَمَ أن كان شهر رمضان المبارك خير الشهور باتفاق؛ وليلة القدر فيه أفضل الليالي على الإطلاق.
أنزل الله -سبحانه- فيه “القرآن”، والتوراة، والإنجيل، والزبور وغيرها من الكتب السماوية؛ بالحجة والبرهان. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وهي الليلة المباركة في آية أخرى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ .. } . وَقد أسند -سبحانه- الْإِنْزَالِ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا وتعَظِيمًا لِلْقُرْآنِ. والْإِتْيَان بِضَمِيرِ الْقُرْآنِ دُونَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ إِيمَاءٌ إِلَى حضوره عندَ الْمُسْلِمِينَ.
وقد اختلف العلماء والمفسرون في سبب تسمية القدر.
الأول: سميت بذلك ؛ لشرفها ومكانتها، يقالُ: فلان ذو قدر، أي ذو شرف ومكانة، فالله سبحانه أنزل فيها كتاباً ذا قدر، عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ ذِي قَدْرٍ، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر.
الثاني: سميت بذلك لتقدير المقادير، والآجال، والأرزاق، والأعمال فيها في عام كامل، قال سبحانه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. [الدخان:٤].
الثالث: سميت بذلك من القدر الذي هو التضييق، قال تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:١٦] أي ضيق؛ فالملائكة تنزل فيها فتضيق الأرض عنهم.
وقد باركها الله سبحانه فجعلها (خير من ألف شهر)، ولعل سبب ارتقائها هذه الغاية ما فيها من المصالح الدينية؛ من تنزل الملائكة، والروح، وفصل كل أمٍر حكيم. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، وتقاصرت إليه أعمالهم. فقالوا: الليلة هي خير من مدة ذلك المغازي.
قال الفخر الرازي: “وقد أَخْفَاها الله كَمَا أَخْفَى رِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ، حَتَّى يَرْغَبُوا فِي الْكُلِّ، وَأَخْفَى غَضَبَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الْكُلِّ، وَأَخْفَى الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ لِيُبَالِغُوا فِي كُلِّ الدَّعَوَاتِ، وَأَخْفَى الِاسْمَ الْأَعْظَمَ لِيُعَظِّمُوا كُلَّ الْأَسْمَاءِ، وأخفى الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لِيُحَافِظُوا عَلَى الْكُلِّ، وَأَخْفَى قَبُولَ التَّوْبَةِ للمواظبة عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّوْبَةِ، وَأَخْفَى وَقْتَ الْمَوْتِ لِيَخَافَ الْمُكَلَّفُ، فَكَذَا أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِيُعَظِّمُوا جَمِيعَ لَيَالِي رَمَضَانَ.
وقد جاء في تعيينها آثار كثيرة. بعضها يعيِّن الليلة السابعة والعشرين، وبعضها يعيِّن الليلة الواحدة والعشرين، وبعضها يطلقها ليلة من الليالي العشر الأخيرة، وبعضها يطلقها في رمضان كله.
وقد نظم بعضُ علماء شنقيط كلام الرازي- كما أفادني به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- فقال:
أخفى على النّاس الصلاةَ الوسْطى
ومُوجبًا من الذّنوب سخطا
وموجبَ الرِّضى من الطاعاتِ
وساعةَ الْجُمْعَةِ في الساعاتِ
وليلةَ القدْرِ والاسمَ الأعظَمَا
ومَنْ تولّى أمرَهُ ربُّ السَّما
وإذا لم تجزم الآثار بتعيين ليلة؛ فإن القرآن قد قطع بأنها ليلة من ليالي رمضان، فحق للمؤمن بهذا الوقت اليسير، شراء الخلود الكبير في الجنان، والبقاء الباقي كبقاء الرحمن، فيا حسرتا على من فرّط فيه فكان نصيبه الخسران.
و قد يغفل المسلمُ – لجهله- عن قدر تلك الليلة، ويسهو عن حقيقتها؛ فيفقد بذلك أجمل وأفضل آلاء الله عليه، ويخسر السعادة الحقيقية، والسلام الحقيقي : سلام الروح، وسلام النفس، وسلام الضمير، وسلام البيت، والمجتمع، جميعًا.
فهي إذن ليلةٌ موعودةٌ في القرآن، مشهودة من الملائكة في كل مكان؛ وهي أهلٌ لأن يستقبلها الوجود كله في فرح وغبطة وأمان.
قال ابن الجوزي: “فينبغي للعاقل أن يعرف قدر عمره، وأن ينظر لنفسه في أمره. فيغتنم ما يفوت استدراكه، فربما بتضييعه هلاكه!.
وفي الصحيحين: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان”..، و”من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
زر الذهاب إلى الأعلى