مقالات

بدائع قرآنية (6)       د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

*يزخر القرآن من أوله إلى آخره ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية: فأينما يممت وجهك وجدت ذلك التناسق البديع، والتناسب الرفيع، بين سور القرآن وآياته وكلماته.

 في حلقات  هذه الزاوية نسلط الضوء على شيء من ذلك، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما تفسير “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري ومعاجم اللغة، وكتب الأدب، و كتب البلاغة، وكتب المتشابه اللفظي، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل” للخطيب الإسكافي، ودواوين الشعر، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة القريبة والبعيدة*.

“البقرة” (ح)

 

القول في تأويل قوله تعالى: {‌فَلا ‌تَجْعَلُوا ‌لِلَّهِ ‌أَنْدَادًا}

قال أبو جعفر (1/368) : والأنداد جمع نِدّ، والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل، كما قال حسان بن ثابت:

أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ … فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

قوله: “ولستَ له بند”، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء و شبيهًا له فهو له ند .

وقال مجاهد؛ أي: يعلمون ‌أنه ‌إله ‌واحد ‌في ‌التوراة ‌والإنجيل.

قال الزجاج (معاني القرآن 1/103) :” قيل يتصل هذا بقوله: {‌فَلَا ‌تَجْعَلوا ‌للَّهِ ‌أندادا} لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا}.

‌قال القشيري في اللطائف(1/68) : {فلا ‌تجعلوا ‌لله ‌أندادا}، ولا تعلّقوا قلوبكم بالأغيار فى طلب ما تحتاجون إليه، فإن الحق سبحانه وتعالى متوحّد بالإبداع، لا محدث سواه، فإذا توهمتم أن شيئًا من الحادثات من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك- فى التحقيق شركًا.”

قال الراغب في المفردات (1/114):” عام في النهي عن الشرك المطلق وعن الدقائق المؤدية إلى الشرك المنبئ عنه بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ولهذا قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في هذه الآية هو قول الرجل: (لولا نباح الكلب لدخل علي اللص) وقيل: هو نهي لقوم كانوا يقولون: إن شاء الله وشاء رسول الله – عليه السلام: ” أمثلان أمثلان؟ قولوا إن شاء الله ” فأنزل الله هذه الآية.

قال الفخر الرازي في تفسيره : (2/344) :” أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ‌{فَلا ‌تَجْعَلُوا ‌لِلَّهِ ‌أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: {فَلا تَجْعَلُوا} الْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ، أَيِ اعْبُدُوا ‌فَلَا ‌تَجْعَلُوا ‌لِلَّهِ ‌أَنْدَادًا، فَإِنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَأَسَاسَهَا التَّوْحِيدُ. وثانيها: بلعل، والمعنى خلقكم لكي تتقوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ، فَلَا تُثْبِتُوا لَهُ نِدًّا، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِقَابِ. وَثَالِثُهَا: بِقَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً} أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْبَاهِرَةَ فَلَا تَتَّخِذُوا لَهُ شُرَكَاءَ السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا النِّدُّ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ الْمِثْلُ الْمُنَازِعُ وَنَادَدْتُ الرَّجُلَ نَافَرْتُهُ، مِنْ نَدَّ نُدُودًا إِذَا نَفَرَ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النِّدَّيْنِ يُنَادُّ صَاحِبَهُ أَيْ يُنَافِرُهُ وَيُعَانِدُهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْأَصْنَامَ تُنَازِعُ اللَّهَ. قُلْنَا لَمَّا عَبَدُوهَا وَسَمَّوْهَا آلِهَةً أَشْبَهَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا آلِهَةٌ قَادِرَةٌ عَلَى مُنَازَعَتِهِ، فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَكَمَا تَهَكَّمَ بِلَفْظِ النِّدِّ شَنَّعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْدَادًا كَثِيرَةً لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِدٌّ قَطُّ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.  الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ لِكَمَالِ عُقُولِكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَصِحُّ جَعْلُهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ مِمَّنْ علم قبحه يكون أقبح وها هنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ يُثْبِتُ لِلَّهِ شَرِيكًا يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ إِلَى الْآنِ، لَكِنَّ الثَّنَوِيَّةَ يُثْبِتُونَ إِلَهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَلِيمٌ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالثَّانِي: سَفِيهٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِي الذَّاهِبِينَ إِلَى ذَلِكَ كَثْرَةٌ، الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: عَبْدَةُ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الصَّابِئَةُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالُوا فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ الْكَوَاكِبَ، وَالْكَوَاكِبُ تَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دِينَ أَقْدَمَ مِنْ دِينِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقْدَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ إِلَيْنَا تَارِيخُهُمْ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. [نُوحٍ: 23] فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنِ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَالَمِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَالدِّينُ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، فَيَسْتَحِيلُ إِطْبَاقُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ غَرَضٌ آخَرُ سِوَى ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:

أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ الْبَلْخِيُّ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ كَانُوا يَقُولُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ وَذُو صُورَةٍ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ، وَهَكَذَا حَالُ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا فِي صُوَرِهِمُ الْحَسَنَةِ: وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدِ احْتَجَبُوا عَنَّا بِالسَّمَاءِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصُوغُوا تَمَاثِيلَ أَنِيقَةَ الْمَنْظَرِ حَسَنَةَ الرُّوَاءِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهَا مِنْ صُوَرِ الْإِلَهِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَيَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ طَلَبَ الزُّلْفَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فَالسَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِقَادُ الشَّبَهِ. وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ، فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا عَنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْأَحْوَالُ الْمُتَبَايِنَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَصَدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ فِي الدُّنْيَا بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ، فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا أَشْيَاءٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَهِيَ الَّتِي خَلَقَتْ هَذِهِ الْعَوَالِمَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ لَكِنَّهَا خَالِقَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَالْأَوَّلُونَ اعْتَقَدُوا أَنَّهَا هِيَ الْإِلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهَا هِيَ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَلَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَالْخُضُوعِ لَهَا، ثُمَّ لَمَّا رَأَوُا الْكَوَاكِبَ مُسْتَتِرَةً فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عَنِ الْأَبْصَارِ اتَّخَذُوا لَهَا أَصْنَامًا وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَامَ الْعَالِيَةَ، وَمُتَقَرِّبِينَ إِلَى أَشْبَاحِهَا الْغَائِبَةِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَلْغَوْا ذِكْرَ الْكَوَاكِبِ وَتَجَرَّدُوا لِعِبَادَةِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَحْكَامِ كَانُوا يُعَيِّنُونَ أَوْقَاتًا فِي السِّنِين الْمُتَطَاوِلَةِ نَحْوَ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ طَلْسَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ؛ نَحْوَ السَّعَادَةِ وَالْخِصْبِ، وَدَفْعِ الْآفَاتِ، وَكَانُوا إِذَا اتَّخَذُوا ذَلِكَ الطَّلْسَمَ عَظَّمُوهُ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَلَمَّا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ التَّعْظِيمِ صَارَ ذَلِكَ كَالْعِبَادَةِ، وَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ نَسَوْا مَبْدَأَ الْأَمْرِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا عَلَى الْجَهَالَةِ بِأَصْلِ الْأَمْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ كَبِيرٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ، وَمَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، اتَّخَذُوا صَنَمًا عَلَى صُورَتِهِ يَعْبُدُونَهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَخْبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي قَوْلِهِ: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ}  [يُونُسَ: 18] وَخَامِسُهَا: لَعَلَّهُمُ اتَّخَذُوهَا مَحَارِيبَ لِصَلَوَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ وَيَسْجُدُونَ إِلَيْهَا لَا لَهَا كَمَا أَنَّا نَسْجُدُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا لِلْقِبْلَةِ، وَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ ظَنَّ الْجُهَّالُ مِنَ الْقَوْمِ أَنَّهُ يَجِبُ عِبَادَتُهَا. وَسَادِسُهَا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُجَسِّمَةِ فَاعْتَقَدُوا جَوَازَ حُلُولِ الرَّبِّ فِيهَا، فَعَبَدُوهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا حَتَّى لَيَصِيرَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا رَجَعَ حَاصِلُ مَذْهَبِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ خَالِقِ الْعَالَمِ أَنْ لَا يَجُوزَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ؟ الْجَوَابُ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى كون الأرض وَالسَّمَاءِ مَخْلُوقَتَيْنِ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ يُشَارِكُونَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَصِّصَ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَافْتَقَرَ هُوَ أَيْضًا إِلَى مُخَصِّصٍ آخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ الشَّبَهِ فَلَمَّا دَلَلْنَا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ فَلَمَّا أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِكُلِّ مَا اتَّصَفَ بِهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بَطَلَ كَوْنُهَا آلِهَةً، وَثَبَتَ أَنَّهَا عَبِيدٌ لَا أَرْبَابٌ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّلْسَمَاتِ فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّلْسَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ قُوَى الْكَوَاكِبِ، فَلَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْكَوَاكِبِ ثَبَتَ قَوْلُنَا وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: فَلَيْسَ في العقل ما يوجبه أَوْ يُحِيلُهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ مِنْهُ وَجَبَ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ السَّادِسُ: فَهُوَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى افْتِقَارِ الْعَالَمِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى كُلِّ التَّأْوِيلَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. جزاك الله خيراا دكتوور أحمد ونفع بك الأمه
    سلمت يمناك
    باانتظار المزيد والمزيد من مقالاتك الغنية والسخيةبالمعلومات🙂

  2. بارك الله فيك دكتورنا الغالي، أرجو الله أن يطيل في عمرك وعمر البعد المفتوح كي تتمكن من الانتهاء من التفسير كاملا

  3. دكتورنا الفاضل
    ما صحة قول:” تفسير الرازي فيه كل شيء إلا التفسير”
    أرجو أن تلقي الضوء على هذه العبارة.

  4. هذه الكلمة أول من قالها الشيخ ابن عطية، صاحب التفسير،ثم قالها ابن تيمية، ثم قالها أبو حيان الأندلسي، فما زالت تلك الكلمة منذ قيلت تشق طريقها في بطون الكتب؛ حتى نقلها وقال بها من لم يقرأ تفسير الرازي..
    وقد رد العلماء وعلى رأسهم الإمام المجتهد التقي السبكي هذه المقولة الجائرة
    بقولهم:” فيه كل الشيء وفيه التفسير”. ونظرة واحدة متعمقة في الكتاب تريك مصداق ذلك!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى