مقالات

بدائع قرآنية (8) د.  أحمد الزبيدي   –   الإمارات

 

د. أحمد الزبيدي

 

  * يزخر القرآن العزيز، من أوله إلى آخره؛ ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية، وأنوار الحقائق الربانية.

 فأينما يممت وجهك، وحيثما أرسلت طرفك، وكيفما أعملت فكرك؛ في سور القرآن الكريم، وآياته، وكلماته، وجدت ذلك التناسق البديع، وألفيت ذلك التناسب الرفيع، وأدهشك ذلك الإعجاز المنيع، بأحسن نطق، وأفصحه، وأبينه، وأعجبه. فلله دره ؛ إذا ‌نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. وإذا سُئل أجاب!

 في حلقات هذه الزاوية العلمية ؛ نستعين الله عز وجل على استنطاق صوابه، واستمطار صابه، بتسليط الضوء على شيء من ذلك، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك-بعد الله – على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما “تفسير الطبري “، و “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ومعاجم اللغة، مثل اللسان، لابن منظور،  والقاموس، للفيروز أبادي، وشمس العلوم، لنشوان الحميري، وكتب المفردات، مثل كتاب “ألفاظ القرآن للراغب” وكتب الأدب، وكتب البلاغة، وكتب  توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل”، للخطيب الإسكافي و”ملاك التأويل” للغرناطي، و”الدر المصون” للسمين الحلبي، كذلك دواوين الشعر، وكتب الأدب، و الرسائل والخطب ، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة والعلاقة القريبة والبعيدة*.

                         “البقرة” (د)

القول في تأويل قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 46] قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظن أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟ قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين ظنًا، ‌والشك ‌ظنًا، ‌نظير ‌تسميتهم ‌الظلمة ‌سدفة، ‌والضياء ‌سدفة، ‌والمغيث ‌صارخًا، والمستغيث صارخًا، قال دريد بن الصمة:

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ

 سَرَاتُهُم فِي الفَارسِيِّ المُسَرَّدِ

يَعْنِي بِذَلِكَ: تَيَقَّنُوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ يَأتِيكُمْ.

قال القرطبي:” وَالظَّنُّ هُنَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ”.

قال صاحب المعجم الاشتقاقي: “البئر الظَّنون: القليلة الماء. مَظِنَّةُ الشيء: موضعه ومألفه الذي يُظن كونه فيه.

قال الفخر الرازي: ” أما قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} فللمفسرين فيه قولان: الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ.

قَالُوا: لِأَنَّ الظَّنَّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يُقَارِنُهُ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ؛ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ غَيْرَ جَازِمٍ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ ،وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ، وَالْمَدْحُ عَلَى الْكُفْرِ غَيْرُ جَائِزٍ، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا الْعِلْمَ، وَسَبَبُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِقَادًا رَاجِحًا، إِلَّا أَنَّ الْعِلْمَ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ النَّقِيضِ وَالظَّنَّ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ النَّقِيضِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حجر: فأرسلته مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أَنَّهُ

 مُخَالِطُ مَا بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ خائف

‌‌والشُّرْسوف: ‌‌طرف الضلع.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ}  [الْحَاقَّةِ: 20] وَقَالَ: {َألا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}  [الْمُطَفِّفِينَ: 4] ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَبَعْثًا عَلَى الظَّنِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْمُجَوِّزِ لِلنَّقِيضِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بالظن ها هنا الْعِلْمُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى ظاهره، وهو الظن الحقيقي، ثم هاهنا وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تُجْعَلَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ مَجَازًا عَنِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُلَاقَاةَ الرَّبِّ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَوْتِ فَأَطْلَقَ الْمُسَبِّبَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ إنه لقي ربه. إذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}  الَّذِينَ يَظُنُّونَ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ فَهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّ خَوْفَ الموت مما يقوي دواعي التوبة، ولأنه مَعَ خُشُوعِهِ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْمَنَ تَقْصِيرًا جَرَى مِنْهُ فَيُلْزِمَهُ التَّلَافِيَ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُ مَا ذَكَرْنَا كان ذلك داعياً إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، الثَّانِي: أَنْ تُفَسَّرَ مُلَاقَاةُ الرَّبِّ بِمُلَاقَاةِ ثَوَابِ الرَّبِّ، وَذَلِكَ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ، فَإِنَّ الزَّاهِدَ الْعَابِدَ لَا يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِثَوَابِ اللَّهِ، بَلْ يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى كَمَالِ الخشوع. الثالث: المعنى الذين يظنون أنهم ملاقو رَبِّهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْخَاشِعَ قَدْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ وَبِأَعْمَالِهِ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِذُنُوبِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. بَقِيَ هُنَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بقوله: {مُلاقُو رَبِّهِمْ}  عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ اللِّقَاءِ لَا يُفِيدُ الرُّؤْيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ وَالْعُرْفُ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}  [التوبة: 77] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً}  [الْفُرْقَانِ: 68] وَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ } [الْبَقَرَةِ: 223] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ :” «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» صحيح

وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْعُرْفُ: فَهُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ مَاتَ: لَقِيَ اللَّهَ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَيْضًا فَاللِّقَاءُ يُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ مِمَّنْ يَلْقَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ الْحِجَابُ بَيْنَهُمَا. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا حُجِبَ عَنِ الْأَمِيرِ: مَا لَقِيتُهُ بَعْدُ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ، وَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَقِيتُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا، وَيُقَالُ: لَقِيَ فُلَانٌ جَهْدًا شَدِيدًا وَلَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ الدَّاهِيَةَ، وَلَاقَى فُلَانٌ حِمَامَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}  [الْقَمَرِ: 12] ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْجِسْمِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْأَصْحَابُ: اللِّقَاءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ؛ عِبَارَةٌ عَنْ وُصُولِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ إِلَى الْآخَرِ بِحَيْثُ يُمَاسُّهُ بِمُسَطَّحَةٍ يُقَالُ: لَقِيَ هَذَا ذَاكَ إِذَا مَاسَّهُ وَاتَّصَلَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُدْرِكَيْنِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْإِدْرَاكِ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ أَقْوَى وُجُوهِ الْمَجَازِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ لَفْظَ اللِّقَاءِ عَلَى الْإِدْرَاكِ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ فِي الْبَوَاقِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ زَالَتِ السُّؤَالَاتُ. أَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التَّوْبَةِ: 77] وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ. قُلْنَا: فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الْمُرَادُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ حِسَابَهُ وَحُكْمَهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمَّا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ، وَأَمَّا فِي قوله تعالى: {أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}  لَا ضَرُورَةَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَا فِي إِضْمَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تَعْلِيقُ اللِّقَاءِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا بِحُكْمِ اللَّهِ، فَإِنِ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تعالى الرجوع إلى حيث لا يَكُونُ لَهُمْ مَالِكٌ سِوَاهُ، وَأَنْ لَا يَمْلِكَ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا غَيْرَهُ، كَمَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ فَجَعَلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا رُجُوعًا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا فِي سَائِرِ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَيَمْلِكُ أَنْ يَضُرَّهُمْ وَيَنْفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ:” {إِنَّا لِلَّهِ}  إِقْرَارٌ مِنَّا لَهُ بِالْمُلْكِ: {وَإِنَّا ‌إِلَيْهِ ‌راجِعُونَ} ، إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهَلَاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ فِيهِ سواء، وَذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَمَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُ اللَّهِ نَفْعَهُمْ وَضَرَّهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا رُجُوعًا إِلَيْهِ تَعَالَى، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، لَا بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ بَلْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ:

فَرْضٍ وَنَفْلٍ، أَمَّا الْفَرْضُ؛ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، لَا يَصْرِفُ عَنْهَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا.

 وَأَمَّا النَّفْلُ؛ فَإِظْهَارًا لِقَوْلِهِ: {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا ‌إِلَيْهِ ‌راجِعُونَ}  فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهِ فَوَائِدَ جَزِيلَةً؛ مِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ إِذَا سَمِعَهُ، وَمِنْهَا غَيْظُ الْكُفَّارِ وَعِلْمُهُمْ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ قَالَ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُحَبَّ الْبَقَاءُ فِيهَا، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْزُنَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ ثَوَابًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سلسله مميزة من المقالات التي تثري معلوماتنا الدينيه 🙂
    مميزة بغزارة المعلومات وسلاسه سردها 🥰🥰
    سلمت يمناك دكتور أحمد جزاك الله خيرااا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى