اعتادت نبتة القمح أن تستيقظ كل يوم مع شروق الشمس لتبدأ بصناعة السكر الذي ترسله آخر النهار الى أجنتها، فهي تحبهم حبًا جمًا وتعمل كل ما في وسعها لرعايتهم. قالت وهي تهمهم وقد أعياها القلق والتفكير في مستقبلهم : سبحان الله مرت الأيام والشهور سريعة وها أنا في خريف العمر وشارفت حياتي على الانتهاء. هذه سنة الحياة ولست خائفة من شيء إلا على أجنتي، خشية أن يباشر أحدهم نموه يومًا، فلا يجد من الماء ما يكفيه، وعندها سيموت عطشًا، لكنها سرعان ما استدركت: يارب ها أنذا حملت كلًا منهم في حبة على سنابلي التي ناءت بها سيقاني، وزودت كلًا منهم – كما أوحيت إليّ – بما أصنعه من غذاء ليكون له متاعًا إلى حين كما أنني بنيت حوله الأسوار وأغلقت عليه الأبواب لعله يسكن ويخلد إلى الراحة بعدما ييأس من فتحها، فلا يفيق من سباته إلا بعد أن يعلوه الماء، وعندئذ أطمئن إلأى أنه سيكون بخير، وبينما هي تكلم نفسها إذ سمعت هاتفًا يناديها ألا تخافي عليهم ولا تحزني، فقد ضمن لك الله تعالى أن لا يباشروا نموهم إلا عندما يتوفر لهم الماء ويكونوا من المرتوين، وعندها فقط وبقدرة الله تعالى وتقديره سيتم إخراج كل منهم حيًا معافى يشق الأرض شقًا ليكون ليكون في عداد النابتين، ألم تسمعي قوله تعالى (إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّت) (٩٥-الأنعام)
أتعلمين ماذا يعني فلق الحب والنوى ؟ إنه تحطيم الأسوار وفتح تلك الأبواب التي أغلقتيها ليسهل خروج الجنين منها دون أي أذى!
قالت في نفسها دون أن ترى من يهاتفها: لقد أثلجت صدري حقًا، فقد قال جل في علاه: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا) (٢٤ – ٢٥ عبس)
نعم سأبدأ بتقليل الماء عنهم حتى تجف الأسوار وتصبح الأبواب أكثر إحكاما وأتركهم لرعاية الله تعالى وحفظه (فَٱللَّهُ خَیۡرٌ حَـٰفِظࣰاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ)، وقبل أن تعود لعملها عاد يهاتفها : ولتستبشري خيرًا فأنت من الأزواج الكريمة التي فاخر الرحمن بها وأشار إليها بقوله تعالى : (أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ))
(7 – الشعراء)
فها أنتِ قد أفنيت عمرك وأنتِ تصنعين الغذاء وترسلينه إلى أجنتك ليستعينوا به في حياتهم المقبلة بعد انفصالهم عنك، وهاهي سيقانك قد وهنت وأوراقك قد اصفرت وأوشكت على الموت بعد أن ضحيت لهم بكل ما تملكين من عناصر غذائية حرصًا على إسعادهم ليس إلا.
لتطمئني أيتها الأم الرؤوم ولتقري عينًا فإن الغذاء الذي تركتيه لأجنتك يكفيهم للإنبات ثم سيصبحون من كبار منتجي الغذاء في العالم، فلا تخشي عليهم الجوع أبدًا، بل بالعكس فإنه سيكون لكل منهم شأن عظيم، فما أن يرى النور حتى تصطبغ خلاياه بمادة اليخضور تلك المادة العجيبة المتخصصة بامتصاص الطاقة الشمسية وإحالتها إلى سكر، تلك المادة التي لا تستغني عنها كل المخلوقات الحية وفي مقدمتها الإنسان، فهم عاجزون عن صناعتها ثم عبر سلسلة من التفاعلات الكيمياوية يتم تحويل السكريات الأحادية إلى سكريات ثنائية، ثم إلى سكريات معقدة لتصل إلى تكوين النشا، فاذا به حبًا متراكبًا على سنابل تسر الناظرين ، وبذا سيكونون ممن يحيي الله بهم الأرض الميتة ، ألم تسمعي قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) (٣٣ – يس)
أذهلها ما سمعت والفرح يغمرها قالت : إذا كان هذا كله سيكون لأجنتي مضمونًا بإذن الله فعلام القلق إذن ؟ حمدًا لك يارب وشكرًا.
نظرت إلى الشمس وقد مالت إلى الغروب فبدأت بالتسبيح مستحضرة قوله تعالى: ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (٣٩ – ق)، وبينما هي تسبح إذ شد انتباهها اللون الذهبي لسنابلها فتبادرت إلى ذهنها الآية الكريمة: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبً) (٩٩- الأنعام)
وهنا تساءلت : كيف اس.تطعت أن أصنع السكر وأحوله إلى نشا؟ وكيف استطعت أن أضع الحبة فوق الحبة بهذا الشكل الجميل ولم أتركها منثورة بغير انتظام ؟ أطرقتْ قليلًا واستدركتْ : هل يا ترى يمكن أن يكون كل هذا مصادفة أوعبثا ؟
أجابت نفسها: لا والله ربي، بل هي مشيئتك وقدرتك المطلقة ، وإذا بالآية الكريمة تظهر أمامها: (ذلك تقدير العزيز العليم) وعندها انتابها خشوع آسر أخذها إلى سجدة طويلة لترفع رأسها وتسارع الخطى لتعاود صنع السكر قبل أن تغيب الشمس وهي تتلو: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (١-٣ الأعلى)
قالت: سبحانك ربي ما أعظمك أي قدرة هذه وأي علم وأي تقدير وأكي إتقان هذا!، وبينما هي مستغرقة بالتفير في بديع صنع الله تعالى، إذ غابت الشمس وحل الظلام فقررت أخذ قسط من الراحة مستحضرة قوله تعالى: (ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ) (٦١ – غافر)
استسلمت للنوم العميق ولم تستيقظ إلا على أشعة الشمس تغطي اوراقها وسيقانها، فنهضت قائلة : أصبحنا وأصبح الملك لله الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور، وانصرفت تعاود نشاطها .
والآن وبعدما تصفحت هذه الخواطر التي جادت بها ذاكرتي لا بد أنه استوقفك خوفي على أجنتي من العطش والجوع، وما الذي دعاني للجد والمثابرة لتأمين ما يكفيهم من الغذاء!
من المؤكد أنك تساءلت عن استحضاري بعض معاني آيات القرآن الكريم، وأدهشك تسبيحي لله وسجودي لعظمته جل في علاه، ولذا فإني أدعوك لتتأمل معي بعض آيات القران الكريم التي تتلى اناء الليل وأطراف النهار لعلها تكون الجواب الشافي لكل ما دار في ذهنك من تساؤلات: الآية الأولى: ﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَانࣱ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهࣰا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ﴾ [11 – فصلت]
ولأن الله جل في علاه قد ذرأني في الأرض فقد أتيت معها طائعة مستسلمة له سبحانه وتعالى.الآية الثانية: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ یَسۡجُدُ لَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَاۤبُّ وَكَثِیرࣱ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِیرٌ حَقَّ عَلَیۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن یُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَفۡعَلُ مَا یَشَاۤءُ﴾ [ 18 – الحج]
وتمامًا كما أنت أيها الإنسان وسائر الكائنات الحية الأخرى، فإني مجبولة على الخوف على ذريتي والحرص على إسعادهم مااستطعت الى ذلك سبيلا،
والآن بعدما اطلعت على بعض الأسرار التي جادت بها ذاكرتي لا بد أنك ستدرك أن حياتي وكل ما قمت به كان وفقًا لما قدره الله تعالى، وبما يضمن توفير الغذاء والطاقة لك.
تأمل قليلًا ستجد أن السموات والأرض وكل ما فيها مسخر ليكون في خدمتك أيها الإنسان مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [١٣ – الجاثية]