مقالات

بدائع قرآنية (10) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

* يزخر القرآن العزيز، من أوله إلى آخره؛ ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية، وأنوار الحقائق الربانية.
فأينما يَمَّمْتَ وجهكَ، وحيثما أرسلت طرفَك، وكيفما أعملت فكرَك؛ في سور القرآن ، وآيات الفرقان، رأيتَ ذلك التناسق البديع، وألفيت ذلك التناسب الرفيع، ووجدت ذلك الإعجاز المنيع، بأحسن نطق، وأفصحه، وأبينه، وأعجبه.
فلله دره ؛ ما أبعد غوره، وأحلى نظمه! ، وأنقى درّه، وأعلى قدره، وأعجب أمره!
إذا ‌نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. وإذا سُئل أجاب !
في حلقات هذه الزاوية العلمية ؛ نستعين الله عز وجل على استنطاق صوابه، واستمطار صابه، والاسْتِظْلالِ بظلاله، و التنعم في رحابه، والاقتباس من شهابه، بتسليط الضوء على شيء من عجائبه، و استجلاءِ بعض غرائبه، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك-بعد الله – على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما “تفسير الطبري “، و “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ومعاجم اللغة، مثل اللسان، لابن منظور، والقاموس، للفيروز أبادي، وشمس العلوم، لنشوان الحميري، وكتب المفردات، مثل كتاب “ألفاظ القرآن للراغب” وكتب الأدب، وكتب البلاغة، وكتب توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل”، للخطيب الإسكافي و”ملاك التأويل” للغرناطي، و”الدر المصون” للسمين الحلبي، كذلك دواوين الشعر، وكتب الأدب، و الرسائل والخطب ، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة والعلاقة القريبة والبعيدة*.

                                               “البقرة” (ذ)

‌‌ القول في تأويل قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا ‌قولا ‌غير ‌الذي ‌قيل لهم.. } [البقرة: 59].
قوله: {فبدل} فغيَّر.
ويعني بقوله: {الذين ظلموا} الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله. ويعني بقوله: {قولا غير الذي قيل لهم} بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه فقالوا خلافه، وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم، بالقول الذي أمروا أن يقولوه، قولا غيره.
قال الراغب :” التبديل والتغيير يتقاربان، لكن أكثر ما يقال التبديل في شيء يجعل مكان آخر، والتغيير في حالة للشيء تغير كالماء الحار إذا جعل بارداً”.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قال الله لبني إسرائيل: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعيرة ” حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قال الجصاص :” ويحتج بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} على أن الأذكار توقيفية لا يجوز تغييرها.
وهو قول الكيا هراسي وابن فرس وغيرهما في كتبهم أحكام القرآن.
وقال أبو بكر بن العربي:” وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ: إنَّ هَذَا الذَّمَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ
ويُحْتَجُّ بِهَا فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْأَقْوَالِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا إلَى غَيْرِهَا.
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ نَظَرٌ؛ وَسَبِيلُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: إنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا، أَوْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا.
وَإِنْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا تَبْدِيلَ إلَّا بِاجْتِهَادٍ.
وَمِنْ الْمُسْتَقِلِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ طِبْقُ الْمَعْنَى.
قال الخطيب الإسكافي:” في سورة البقرة: {‌فبدل ‌الذين ‌ظلموا ‌قولا ‌غير ‌الذي قيل لهم} ، وفي سورة الأعراف في هذه القصة: {فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم} .
وللسائل أن يسأل فيقول: هل في زيادة (منهم) في هذه الآية في سورة الأعراف حكمة وفائدة تقتضيانها ليستا في سورة البقرة؟
والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا} وإن لم يذكر فيه منهم معلوم أن المراد بالظالمين: الذين ظلموا من المخاطبين بقوله: {ادخلوا هذه القرية} ، (فكلوا) ، {وقولا حطة}، فالذين ظلموا من هؤلاء هم الموصوفون بالتبديل، والمغيرون لما قدم إليهم من القول إلا أن في سورة الأعراف معنى يقتضي زيادة منهم هناك ولا يقتضيها هنا، وهو أن أول القصة في سورة الأعراف مبني على التخصيص والتمييز بدليل لفظ من لأنه قال تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}الأعراف: 159، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عد صنوفا إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهت قال: {فبدل الذين ظلموا منهم} فأتى في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعم الله عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليه فأتى بلفظ من التي هي للتخصيص والتمييز بناء على أول القصة التي هي: {ومن قوم موسى} ليكون آخر الكلام لأوله مساوقا، وعجزه لصدره مطابقا، فيكون الظالمون من قول موسى بإزاء الهادين منهم، وهناك ذكر أمة هادية عادلة، وهنا ذكر أمة مبدلة عادية مائلة، وكلتاهما من قوم موسى، فاقتضت التسوية في المقابلة ذكر (منهم) في سورة الأعراف.
قال الفخر الرازي:” أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمْرٌ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ تَكْلِيفًا وَدُخُولُ الْبَابِ سُجَّدًا مَشْرُوطٌ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ لَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 21] دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْقَرْيَةُ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَخْبَارِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَفْسُ مِصْرَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي زَيْدٍ إِنَّهَا أَرِيحَاءُ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَرْيَةُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا}، تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ وَقَعَ مِنْهُمْ عَقِيبَ هَذَا الْأَمْرِ فِي حَيَاةِ مُوسَى، لَكِنَّ مُوسَى مَاتَ فِي أَرْضِ التِّيهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّا قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَوْ عَلَى لِسَانِ يُوشَعَ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى لِسَانِ يُوشَعَ زَالَ الْإِشْكَالُ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. في ميزان حسناتك د أحمد ، وحسنات القائمين على البعد المفتوح
    وأرجو من الله العلي القدير أن يكتمل مشروع البدائع حتى نراه في كتاب.

  2. زادك الله من علمه دكتور أحمد..
    أي جهد و لو كان بسيطا” في تدبر آيِّ القرآن إنّما يُظهر عظمة و عمق و صدق هذا الكتاب، جعلنا الله و إيّاكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى