مقالات

بدائع قرآنية (12)  د . أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 

 * يزخر القرآن العزيز، من أوله إلى آخره؛ ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية، وأنوار الحقائق الربانية، فأينما يَمَّمْتَ وجهكَ، وحيثما أرسلت طرفَك، وكيفما أعملت فكرَك؛ في سور القرآن ، وآيات الفرقان، رأيتَ ذلك التناسق البديع، وألفيت ذلك التناسب الرفيع، ووجدت ذلك الإعجاز المنيع، بأحسن نطق، وأفصحه، وأبينه، وأعجبه.

 فلله دره ؛ ما أبعد غوره، وأحلى نظمه ! ، وأنقى درّه، وأعلى قدره، وأعجب أمره!

 إذا ‌نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. وإذا سُئل أجاب !

 في حلقات هذه السلسلة العلمية ؛ نستعين الله عز وجل على استنطاق صوابه، واستمطار صابه، والاسْتِظْلالِ بظلاله، و التنعم في رحابه، والاقتباس من شهابه، بتسليط الضوء على شيء من عجائبه، و استجلاءِ بعض غرائبه، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك-بعد الله – على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما “تفسير الطبري “، و “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ومعاجم اللغة مثل “لسان العرب” لابن منظور،  والقاموس للفيروز أبادي، و”شمس العلوم” لنشوان الحميري،  وكتب المفردات، مثل كتاب “ألفاظ القرآن للراغب” وكتب الأدب، وكتب البلاغة، وكتب  توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، لا سيما كتاب: “أسرار التكرار في القرآن” المسمى: “البرهان في توجيه متشابه القرآن” لما فيه من الحجة والبيان،  و“دُرة التنزيل وغُرة التأويل” للخطيب الإسكافي و”ملاك التأويل” للغرناطي، و”الدر المصون” للسمين الحلبي، كذلك دواوين الشعر، وكتب الأدب، و الرسائل والخطب ، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة والعلاقة القريبة والبعيدة*.

                                                    “البقرة” (ز)

‌‌القول في تأويل قوله تعالى: {‌ثُمَّ ‌قَسَتۡ ‌قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} [البقرة: 74].

قال الإمام الطبري:” يعني بذلك كفار بني إسرائيل.

يقال: قسا، وعسا، وعتا، بمعنى واحد، وذلك؛ إذا جفا، وغلظ وصلب، يقال منه: قسا قلبه يقسو قسوًا وقسوة وقساوة وقساء.

فال الدينوري:” تأويل القسو في القلب؛ ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه”

ويعني بقوله: {فهي} قلوبكم. يقول: ثم صلبت قلوبكم، بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه، عن الخضوع والإذعان له … فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد صلابة؛ فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة: 74] وأو عند أهل العربية إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟ قيل: إنه خبر منه عن قلوبهم القاسية؛ أنها كالحجارة قسوة أو أشد !

وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ:

أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا           وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا

فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ         وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا

وَلَمْ يَشُكَّ أَبُو الْأَسْوَدِ أَنَّ حُبَّهُمْ رُشْدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِبْهَامَ. وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: شَكَكْتَ! قَالَ: كَلَّا، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:” {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وَقَالَ: أَوَ كَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا !

قال صاحب الأنموذج:” فإن قيل: قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ ‌لَمَا ‌يَتَفَجَّرُ ‌مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}.

كلاهما في المعني واحد فما فائدة الثاني؟

قلنا: التفجير يدل على الخروج بوصف الكثرة، والثاني يدل على نفس الخروج، وهما متغايران فلا تكرار.

قال الإمام ابن حزم:”فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن الْحِجَارَة لم تُؤمر بشريعة وَلَا بعقل، وَلَا بعث إِلَيْهَا نَبِي، فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن القَوْل مِنْهُ تَعَالَى يخرج على أحد ثَلَاثَة أوجه:

أَحدهَا: أَن يكون الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط} راجع إِلَى الْقُلُوب الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} فمن تِلْكَ الْقُلُوب القاسية مَا يقبل الْإِيمَان يَوْمًا مَا فيهبط عَن الْقَسْوَة إِلَى اللين من خشيَة الله تَعَالَى، وَهَذَا أَمر يُشَاهد بالعيان فقد تلين الْقُلُوب القاسية بلطف الله تَعَالَى ويخشى العَاصِي، فَهَذَا وَجه ظَاهر مُتَيَقن الصِّحَّة.

وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الخشية الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة إِنَّمَا هِيَ؛ التَّصَرُّف بِحكم الله تَعَالَى، وجري أقداره كَمَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى عز وَجل حاكياً عَن السَّمَاء وَالْأَرْض {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين}.

وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن يكون الله تَعَالَى عَنى بقوله: {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} الْجَبَل الذي صَار دكاً؛ إِذْ تجلى الله تَعَالَى لَهُ، يَوْم سَأَلَهُ كليمه عَلَيْهِ السَّلَام الرُّؤْيَة…وَهَذِه معْجزَة وَآيَة فِي ذَلِك الْجَبَل خَاصَّة.

وقد حدثنا ابن حزم عن رجل استدل من الآية أن لها عقلا، فرد عليه ردا قاسيا، قال:” ونحن نقول إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل، فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها، وكيف يكون لها تمييز وعقل والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة، … فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا!

قال مجاهد: ” في قول الله جل ثناؤه: {ثم قست قلوبكم… } الآية.  كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن “

قال الزجاج: {ومنها ما يهبط من خشية} نحو الجبل الذي تجلى اللَّه له حين كلم موسى عليه السلام.

قال الإمام الرازي -وأنقله باختصار-: ” اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَأَثَّرَ عَنْ مُطَالَعَةِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَتَأَثُّرُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَإِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَضَ لِلْقَلْبِ عَارِضٌ أَخْرَجَهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، صَارَ فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ شَبِيهًا بِالْحَجَرِ ،فَيُقَالُ: قَسَا الْقَلْبُ وَغَلُظَ، وَلِذَلِكَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرِّقَّةِ فَقَالَ: {كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزُّمَرِ: 23] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: {قُلُوبُكُمْ} أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيِ اشْتَدَّتْ قُلُوبُكُمْ وَقَسَتْ وَصَلَبَتْ مِنْ بَعْدِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَتْ أَوَائِلَكُمْ وَالْأُمُورُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْعِقَابُ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ وَالْآيَاتُ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَالْمَوَاثِيقُ الَّتِي أَخَذُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى كُلِّ مَنْ دَانَ بِالتَّوْرَاةِ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ طُغْيَانِهِمْ وَجَفَائِهِمْ مَعَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي تَلِينُ عِنْدَهَا الْقُلُوبُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} خِطَابُ مُشَافَهَةٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أُولَئِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خُصُوصًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ سَلَفِهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فِيهِ مَسَائِلُ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ «أَوْ» لِلتَّرْدِيدِ وَهِيَ لَا تَلِيقُ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ وُجُوهٌ:

 أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصَّافَّاتِ: 147] بِمَعْنَى وَيَزِيدُونَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:

{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ} [النُّورِ: 31] وَالْمَعْنَى وَآبَائِهِنَّ وَكَقَوْلِهِ: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ} [النُّورِ: 61] يَعْنِي وَبُيُوتَ آبَائِكُمْ.

 وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُبْهِمَهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَقَالَ ذَلِكَ كما يَقُولُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ: أَكَلْتُ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا، وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ أَكَلَ أَحَدَهُمَا؛ إِذَا أراد أن يُبَيِّنَهُ لِصَاحِبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَهِيَ كالحجارة، ومنها ما هو أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآدَمِيِّينَ إِذَا اطَّلَعُوا عَلَى أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: {إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ}وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} [النَّجْمِ: 9] أَيْ فِي نَظَرِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» بِمَعْنَى بَلْ وَأَنْشَدُوا:

فو الله مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ

     أَمِ الْقَوْمُ أَوْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ ؟

قَالُوا: أَرَادَ بَلْ كُلٌّ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ مَا آكُلُ إِلَّا حُلْوًا أَوْ حَامِضًا أَيْ طَعَامِي لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ، بَلْ يَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمَا. وَسَابِعُهَا: أَنَّ «أَوْ» حَرْفُ إِبَاحَةٍ كَأَنَّهُ قِيلَ بِأَيِّ هَذَيْنِ شَبَّهْتَ قُلُوبَهُمْ كَانَ صِدْقًا كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ أَيْ أَيَّهُمَا جَالَسْتَ كُنْتَ مُصِيبًا وَلَوْ جَالَسْتَهُمَا مَعًا كُنْتَ مُصِيبًا أَيْضًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهَا بِأَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً لِوُجُوهٍ.

 أَحَدُهَا: أَنَّ الْحِجَارَةَ لَوْ كَانَتْ عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كَمَا قَالَ: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْحَشْرِ: 21] . وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحِجَارَةَ لَيْسَ فِيهَا امْتِنَاعٌ مِمَّا يَحْدُثُ فِيهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ قَاسِيَةً، بَلْ هِيَ مُنْصَرِفَةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ تَسْخِيرِهِ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي اتِّصَالِ الْآيَاتِ عِنْدَهُمْ وَتَتَابُعِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ لِمَعْرِفَةِ حَقِّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} [الْأَنْعَامِ: 38] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ} [الْأَنْعَامِ: 39] كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أُمَمٌ سُخِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِشَيْءٍ وَهُوَ مُنْقَادٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَثَالِثُهَا: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، لِأَنَّ الْأَحْجَارَ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَظْهَرُ مِنْهَا الْمَاءُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَمَّا قُلُوبُ هَؤُلَاءِ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ وَلَا تَلِينُ لِطَاعَةِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: {أَشَدُّ قَسْوَةً} وَلَمْ يَقُلْ أَقْسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ ،وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قَصَدَ وَصْفَ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّفَجُّرُ التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، يُقَالُ: انْفَجَرَتْ قُرْحَةُ فُلَانٍ، أَيِ انْشَقَّتْ بِالْمُدَّةِ وَمِنْهُ الْفَجْرُ وَالْفُجُورُ

وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ الْهُبُوطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَالْحَجَرُ جَمَادٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيهِ، فَلِهَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا فِي هذه الآية وجوهاً.

قال الإمام ابن تيمية :” وإن قوما من هذه الأمة، ممن ينسب إلى علم أو دين، قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب، يرى ذلك من له بصيرة، فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله”.

وفي الترمذي-حسن- عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌لَا ‌تُكْثِرُوا ‌الْكَلَامَ ‌بِغَيْرِ ‌ذِكْرِ ‌اللهِ،» فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي.

ورضي الله عن الامام الشافعي حيث يقول:

وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي

  جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى