مقالات

“وَصْفَةُ نَجاح” قصيدة د. ثريا نعمان ماهر الكنعاني  

قراءة :    د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

إن كنتَ تبغي نجاحا    

 فخلِّ عنك الكفاحا

واسمع لقولي فإنِّي   

 ضمَّنتُه الإيضاحا

لو جئتَ تطلب علماً    

يرضي لديك طِماحا

لا تسهرنَّ اللَّيالي       

\تثقل خُطاك رَواحا

يكفيكَ عِلمٌ خفيفٌ      

 يحقِّق الأرباحا

فالدَّرس فعلٌ لماضٍ    

منه الفطينُ استراحا

ونابَ عنه غباءٌ     

 بكلِّ فضلٍ أطاحا

هذا زمانٌ زنيمٌ       

لا تَرجُ منه صلاحا

فالمجدُ طوعُ دعيٍّ   

نال العلومَ سِفاحا

والدَّالُ إذ كان نطعاً  

قد عاد حرفاً متاحا

الدَّالُ شاهد زورٍ   

جفا العلا وأشاحا

+++

هذا زمانٌ خبيثٌ        

يصوتُ كفراً صُراحا

يُفتيكَ في الدِّين عِلْجٌ    

يريد منَّا انفتاحا

يؤوِّل الآيَ مَيناً       

يرضي الأميرَ انبطاحا

ويأكل السُّحتَ حِلّاً    

ومغنماً مستباحا

يُفنيهِ قضباً وأبَّا        

واللهَ يرجو السَّماحا

+++

هذا زمانُ الأغاني     

فاهزجْ دُجىً وصباحا

ارقصْ وصفِّقْ وطبِّلْ   

واملأ سَماكَ صياحا

ولُمَّ حولك حمقى        

لا يسأمون نُباحا

عربدْ إذا رُمتَ مدحاً     

واكرعْ قذاكَ قَراحا

فالفنُّ أمسى مجوناً       

يكسو العُراةَ وشاحا

ولو كشفنَ نهوداً        

 تغدو القرودُ مِلاحا

+++

إن كنت تُحسِنُ قفزاً       

فلا عليك جُناحا

أبشِرْ بكسبٍ عجيبٍ       

يُعيي الخيالَ جِماحا

هروِلْ وراء كراتٍ      

  فقد ملكتَ السَّاحا

اهجمْ أو ادفعْ ظهيراً    

   ولا تَهيضَنْ جَناحا

أنت الرَّجاءُ لشعبٍ      

 يقاتلُ الأشباحا

هذي الكراتُ عدوٌّ      

إرفعْ عليها السِّلاحا

واجلبْ عليها برِجلِك  

 واستفززِ الأرواحا

فإنْ نزفْنَ دِماءً         

والنَّصرُ في الأفقِ لاحا

فافتحْهُ فتحاً مبيناً         

يفلِّقُ الإصباحا

واهدِ البلادَ كؤوساً       

تضمدْ بهنَّ جِراحا

+++

إن كنتَ تبغي النَّجاحا   

 فجارِهنَّ رياحا

وخدِّرِ العقلَ تدركْ        

سلامةً وفلاحا

 ‌قصيدة تُقرى مَلْأى بالمعاني، سحاءةٌ للأماني، تكللت كأخواتها بالنجاح والأفراح والأغاني ؛ ترسلها قريحة الشاعرة المبدعة؛ الدكتورة ثريا نعمان ماهر الكنعاني ، تَصفُها لذوي الوجوه الصّباح، والعقول الصّحاح، والألسن الفصاح، والأنساب الصّراح ، والمكارم ‌الرّباح ، والصدور الفساح..! وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت ‌عن ‌الكلام ‌المباح، وكانت الوصفة السابقة للشاعرة الدكتورة ثريا بعنوان “تعال يا عيد”. وقد سبق نشرها في “البعد المفتوح”وعلقت عليها.

لست أدري؛ لمَ تستفزني قصائد الدكتورة الشابة المبدعة “ثريا” ! فما أن تقع عيني عليها، حتى تجذبني إليها، تأسرني بجمالها، وتأخذني بحسنها ودلالها، وتقول هياّ، فلن تر في القصائد مثلي شيّا، فلا أملك إلا أن ألبّي النداء، فأقرؤها ما الله شاء، تصويتاً، وترنيماً غناء.

‌تغَنْ ‌بالشعر إما كنتَ قائلهُ

إنّ الغناءَ بهذا الشعر مضمارُ

والتَّغَنِّيَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هو التَّرْجِيعُ بِالصَّوْتِ، وكانوا يطلقونه على ‌الترنم ‌بالشعر، وهو مما يعين الشاعر والقارئ على السواء.

قال ابن حجة الحموي- خزانة الأدب – : “وإذا شرعت في التأليف ‌تغنَّ ‌بالشعر، فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه، واجتهد في إيضاح معانيه، …”.

فماذا بعدُ ، أتصدُق الكلمة ويتحقق الوعد؟

نعم، تزداد القصيدة –بعد ذلك – حلاوة في فَمي، وجريانًا في دَمي ! ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعدى كل حد، فتجعلني أسلو الكتاب، وأقلو الأصحاب، وأقتفي بأبي تراب، فارس الخطباء والكتاب، وأسرع في امتشاق القلم، كي أزيل ما بي من ألم، وأعبر به عما تركته القصيدة من آثار مبرحة، وإيحاءات ودلالات مصرحة وغير مصرحة، فهل يكون السبب أنها على بحر المجتث، وهو السمين بلا غث، المُحبب إلى نفسي، المقربُ لأنسي، السهل الميسور من بين البحور.

وأصل وزن المجتث :

مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن

مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن

وقد ذكر بعض العلماء والمفسرين أن الآية الكريمة “نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم” مُتَّزِنَةً عَلَى مِيزَانِ ‌بَحْرِ ‌”الْمُجْتَثِّ”.

قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره :” وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: (نبيء عِبَادِي… إِلَى الرَّحِيمُ) من المحسّنات البديعية، مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ إِذَا سَكَنَتْ يَاءُ أَنِّي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَسْكِينِهَا، فَإِنَّ الْآيَةَ تَأْتِي مُتَّزِنَةً عَلَى مِيزَانِ ‌بَحْرِ ‌الْمُجْتَثِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخَبْنُ فِي عَرُوضِهِ وَضُرُبِه”.

وقد وجدت من العلماء؛ “ابن ربه” صاحب “العقد الفريد” يعدّ بحر “المجتث” أحلى البحور، وقد قال فيه إسحق الموصلي وهو يتغنى في حضرة الرشيد:

اسمع للحن خفيف  

  من صنعة الأنباري

قال العلامة عبد الله الطيب في كتابه “المرشد”:” ولا أنكر أن له رنة عذبة، وأنه من الأبحر القصار القليلة التي يحسن فيها تطوير الكلام للإطراب والإمتاع.

وقد عرف المتصوفة هذه المزية له فأكثروا من استعماله في أناشيدهم من ذلك:

يا قبلتي في صلاتي   

 إذا وقفت أصلِّي

فهل يكفي القصيدة “وصفة نجاح” أن تكون من بحر “المجتث” حتى تكون متميزة وتفوز بالإعجاب، وتنأى عن الثْلب والأَثْلاب ؟! والجواب: لا، فثم عوامل أخرى مهمة، وأهمها؛ ما يمتاز به قائلها من الدقة المتناهية، والأحاسيس الصادقة العالية، في إدراك معاني الشعر، وما فيه من غضارة ورُوقة وجمال.

والحديث عن أهمية الإحساس عند الشاعر حديث طويل الذيل، كثير السيل، وهو في نظري ونظر كثير من النقاد أهمَّ أركان الصنعة الشعرية، فلا يكون الشاعر شاعرا إلا إذا فاضت نفسه به؛ كاملاً، نافذًا، متغلغلًا في الأوصال، مهيمنًا على الأحوال، بعيدًا عن المنطق العقلي، وليس معنى ذلك أن يخلو الشعر منه، بل معناه أن يعمل المنطق العقلي في توجيه الإحساس خوفًا عليه من الضلال والوسواس ، فلا يضل عن هدفه ومقصوده في التعبير، عن الصور التي يروم إنشاءها.

وقد لفتني منذ اليوم الأول في الدكتورة ثريا -رغم أنها من المُقلات-،أنها لا تُخرج للناس من أعمالها الأدبية-شعرا ونثرا- إلا الحَسَنُ، البسنُ، ومن أشعارها إلا ما يذهب الوسن،و يولد في قلوب القراء ‌الإحساس بالجمال، والطموح إلى الكمال، ويفسح الآمال، وينشيء عندهم الرغبة في تطلبها بلا كسل أو إهمال،فذاك وحده يسمو بالروح، ويشيد الصروح، وينشئ الجنان، لتكون مسرحًا للفراشات والغزلان !

والشاعر، والأديب، والفنان ، لا يكتب له الخلود على مر الأزمان، إلا إذا اتسمت أعماله بصدق المشاعر، وخلوص العاطفة، وصواب الفكر، وقدر كبير؛ من التوفيق في المعالجة والتركيز، والتقدير.

هذا ما تيسر في التعليق على الشعر، والشاعرة، بشكل عام، أما الحديث عن هذه القصيدة الفذة وتدبرها وفهم معانيها، والاجتهاد في استبطان نفس قائلتها من خلال كلامها ومراميها، وما حوته من خيال رائع، ونسيج متين واسع، فنرجئه إلى حين، وعسى ذلك أن يكون قريبًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. لك أسلوب رشيق يلفت النّظر؛ تأخذ برأس الفكرة ثمّ تمدُّ منها أشعَّة كلُّ واحد منها ينبّه على فكرة جديدة ندلف منها إلى مبحث مستقلّ.
    شرفٌ لي أنّها نالت رضاك وأنت النَّاقد الصَّيرفيّ.

  2. بوركت وبورك قلمك ومجلتك د أحمد الزبيدي، لقد بعثت فينا النقد الأدبي البناء، ونبهتنا إلى أدباء وشعراء لم نكن نعرف عنهم أو نسمع بهم من قبل، لأن الإعلام- للأسف- لا يظهر الا من كان معنيا بإظهاره..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى