مقالات

شكوى الزمان وفلسفتها عند الشعراء، والأدباء، والأعيان د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات 

د. أحمد الزبيدي

وَلِعَ العلماءُ، والشعراءُ، والحكماءٌ، بشَكْوَى ‌الزَّمَانِ، والتبرم بالإخوان، وترادف الحرمان، فنسبوا إلَيْهِ الغدر والأمان، وَالتَّأْخِيرَ وَالتَّقْدِيمَ، وَالْمهَانَةَ والتكريم، ولم يزالوا من الدهر متألمين، ومن أبنائه متظلّمين، حتى أتاهم اليقين..!

فما من شاعر قرض الشعر إلا وشكا سوء حظه، وبؤس يومه، وعاب الزمان، و تلقى لومه الحدثان، على رفعه الجهلاء، وحطه الفضلاء. والزمان ظرف لا يقبل مدحًا ولا ذمًا، وإنما شكواه شكوى أهله.

وقد تنبه أبو الطيب المتنبي لهذا فقال:

‌أَلا [‌لَا] ‌أَرَى ‌الأحْدَاثَ ‌حَمْدًا ‌وَلَا ‌ذَمَّا 

  فَمَا بَطْشُهَا جَهْلًا وَلَا كَفُّهَا حِلْمَا

فهو لا يحمد الأحداث السارة، ولا يذم الضارة، فبطشها ليس جهلًا، وكفها ليس حلمًا، فالفعل في جميع ذلك لله، ونسبة الأفعال إليها إبداعٌ استعارةً ومجازًا.

 وقد وقع ذلك في كلام العلماء والحكماء نظمًا ونثرًا، حتى روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، قوله:

 ‌مِحَنُ ‌الزمانِ ‌كثيرةٌ لا تنقضي

وسُرورُه يَأتيك كالأعياد

مَلَكَ الأكابِرَ فاسترقّ رقابَهم

  وتراه رِقًّا في يد الأَوْغاد

ومِحْنَة [مفرد]: ج مِحْنَات ومِحَن: بلاء ‌وشِدّة، ‌ما ‌يُمتحن ‌الإنسانُ ‌به ‌من ‌بليَّة.

غير أن شكوى الشافعي لها فلسفة خاصة، فهو يرمي من ذلك لفت العقلاء إلى أسرار حكمة الباري التي لا يعلمها إلا هو .

أنشد الشافعي لسفيان بن عُيَيْنَة:

كم من قويّ قويٍّ في تقلُّبه

مهذّب الرأي عَنْهُ الرزقُ منْحَرِفُ

ومن ضعيفٍ ضعيف العقل مختلط

كأنّه من خليج البحرِ يغترفُ

هذا دليل على أن الإله له

 سرٌ خفيٌّ علينا ليس ينكشفُ

وعن الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها كانت تنشد قول لبيد بن ربيعة :

ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ

وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ

يَتَحَدَّثُونَ مَخَانَةً وَمَلَاذَةً

وَيُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يُشْعَبِ

 قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ: «فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ لَبِيدٌ مَنْ نَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ» ، قَالَ: مَعْمَرٌ: «فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ الزُّهْرِيُّ مَنْ نَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ».

وفي رواية:” ثم قالت: كيف لو رأى لبيد خلفنا هذا!

ويقول الشعبي: كيف لو رأت أم المؤمنين خلفنا هذا!

قال الجاحظ :” والخلف: البقية الصالحة من ولد الرجل وأهله. والخلف ضد هذا”.

ولبيد هذا هو الذي قال حين مضت له سبع وسبعون:

‌نفسي ‌تشَكّى إليّ الموْتَ مُزْحِفَةً

وقَد حمَلتكِ سبعًا بعد سبعينا

إنْ تُحْدِثى أملًا يا نَفْسُ كاذبةً

إنّ الثّلاثَ يُوَفّينَ الثّمانِينَا

فلما بلغ مائة وعشرًا قال:

أليس في مائة قد عاشها رجل

وفي تكامل عشر بعدها عمر

فلما بلغ عشرين ومائة، قال:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا النَّاس كيف لبيد؟

قال أعرابي لابن عباس رضي الله عنه: إني سمعت عائشة تذم دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد؟ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ” لَئِنْ ذَمَّتْ عَائِشَةُ دَهْرَهَا، لَقَدْ ذَمَّتْ عَادٌ دَهْرَهَا.

 وعن ابن أحمر قال: كنا عند أبي نعيم، فذكروا قول لبيد، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ::

‌ذَهَبَ ‌النَّاسُ ‌وَاسْتَقلُّوا ‌فَصِرْنَا

خَلَفًا فِي أَرَاذِلِ النَّسْنَاسِ

مِنْ أُنَاسٍ نَعُدُّهُمْ مِنْ عَدِيدٍ

فَإِذَا كُشِّفُوا فَلَيْسُوا بِنَاسِ

كُلَّمَا جِئْتُ أَبْتغِي النَّيْلَ مِنْهُمُ

بَدَءُونِي قَبْلَ السُّؤَالِ بَيَاسِ

وَبَكُوا لِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي

مُفْلِتٌ عِنْدَ ذَاكَ رَأْسًا بِرَأْسِ

(النسناس) بفتح النون وكسرها: حيوان على شكل الإنسان، هكذا يذكر في معاجم اللغة، وعند العامة نوع من القردة.

وروي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ذهب الناس

وبقي النسناس. قيل: وما النسناس؟ قال: “الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس”.

وفي كتاب “‌فضل ‌الكلاب على كثير مِمَّن لبس الثياب” بعد ذكر بيتي لبيد قال: .. كنت عند بشر بن الحارث عشية فرأيته مغمومًا، فما تكلم حتى غربت الشمس، ثم رفع رأسه فقال:

‌ذَهَبَ ‌الرِجالُ ‌المُقتَدى ‌بِفِعالِهِم

وَالمُنكِرونَ لَكُلِّ أَمرٍ مُنكَرِ

 وَبَقيتُ في خَلَفٍ يُزَكّي بَعضُهُم

بَعضاً ليَدفَعَ مُعوِرٌ عَن مُعوِرِ

فَطِنٌ لِكُلِ مُصيبَةٍ في مالِهِ

وَإِذا أُصيبَ بِعِرضِهِ لَم يَشعُرِ

وأنشدنا أيضًا غيره:

ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً

سُروا وقالوا مرحبًا بالمقبِل

وبقي الذين إذا رأوني مقبلاً

 سيئوا وقالوا ليته لم يُقبل

وقال آخر :

ذهب الذين إذا غضبت تحملوا

وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا

وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها

 وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا

وَلأَبِي الحَسَنِ بن لَنْكَكَ البَصْرِيِّ فِي ‌شَكْوَى ‌الزَّمَانِ:

يَا زَمَانًا أَلْبَسَ الأَحْـ … ـرَار ذُلَّا وَمَهَانَه

لَسْتَ عِنْدِي بِزَمَانٍ … إِنَّمَا أَنْتَ زَمَانَه

كَيْفَ نَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا … وَالعلى فِيْكَ خِيَانَه

أَجُنُوْنٌ مَا نَرَاهُ مِنْـ …ـكَ يَبْدُو أَمْ مَجَانَه؟

وَقَالَ أَيْضًا فِيْهِ:

زَمَانٌ قَدْ تَفَرَّغَ لِلْفُضُولِ

يُسَوِّدُ كُلَّ ذِي حُمَقٍ جَهُوْلِ

فَإنْ أَحْبَبْتُمُ فِيْهِ ارْتِفَاعًا

فَكُوْنُوا جَاهِلِيْنَ بِلَا عُقُوْلِ

وابن لَنْكَكَ هو ‌محمد ‌بن ‌محمد ‌بن ‌جعفر ‌البصرى الشاعر، وصفه صاحب اليتيمة بأنه فرد البصرة وصدر أدبائها، وأكثر شعره ملح وطرف، وكان معاصرًا للمتنبى.

ولابن الرومي:

‌رأيتُ ‌الدَّهرَ ‌يرفع ‌كلَّ ‌وغدٍ

ويخفض كلَّ ذي شيمٍ شريفهْ

كمثلِ البحر يغرقَ فيهِ حيٌّ

ولا ينفكُّ تطفو فيهِ جيفهْ

أو الميزانِ يخفضُ كلَّ وافٍ

ويرفعُ كلَّ ذي زنَةٍ خفيفهْ

كان لسفيان جار مخنّث، فمرض فعاده سفيان مع أصحابه فقال: كيف تجدك؟

فقال: إنّ العلل والآفات تجيء باقات، والعافية تجيء طاقات، فقال سفيان: ما خرجنا إلّا بفائدة!

وقال آخر:

‌ولي ‌فرسٌ ‌من ‌نسلِ ‌أعوجَ ‌سابقٌ

ولكنْ على قدرِ الشعير يحمحمُ

ولم يرض الشاعر أن يشتكي هو من الزمان، بل جعل فرسه يشتكي أيضًا.

وقد استدل الأديب أسامة بن منقذ بهذا البيت على ظريف الشعر وسهله.

وللشاعر الكبير البارودي :

كلما رمت نهضة أقعدتني

 ونية لا تقلها أعصابي

لم تدع صولة الحوادث مني

غير أشلاء همة في ثيابي

وزادت شكواه، وعلت نجواه، حين تخطف الموت ابنته وزوجه الأولى وأصحابه، فابتدأ الفناء يدب إليه…وعاد البارودي من منفاه إلى مصر “أشلاء همة في ثياب” كما يقول، ولكن جاد على الأدب بقصيدة من روائع الشعر، حين قال:

أبابل مرأى العين أم هذه مصر؟

فإني أرى فيها عيونًا هي السحر

***

وفي المقابل قد تغلب الأمل في نفوس بعض الشعراء على اليأس، فقال القاضي الأرجاني:

فلا تكثرن ‌شكوى ‌الزمان فإنما

لكل ملم جيئة وذهاب

وقال آخر:

فانهضْ ودعْ ‌شكوى ‌الزمانِ ولا تنخ

في فادح البؤسى مع الأنواحِ

وقال ابن لنكك:

 يعيبُ الناسُ كلهم الزمانا

   وما لزمانِنا عيبٌ سوانا

‌نَعيبُ ‌زمانَنا ‌والعيبُ ‌فينا

 ‌  ولو ‌نطقَ ‌الزمانُ ‌إِذن ‌هجانا

قال الشيبانيُّ: أتانا يومًا ‌أبو ‌مَيَّاس ‌الشاعر ونحن جماعة، فقال: ما أنتم؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلا، الزمان وعاء، وما أُلقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول:

أرى حلُلًا تصان على رجال

و أخلاقًا تُزال ولا تُصان

يقولون الزمانُ به فسادٌ

  وهم فسدوا وما فَسدَ الزمانُ

وأخيرا، قد يخطر على البال سؤال، وهو إذا كان شكوى الزمان وذمه قد نهى الشرع عنه، فكيف يستجيز العلماء ذلك، وقد وقع ذلك في كلامهم نظمًا ونثرًا ! ؟

 وقد أجاب على هذا السؤال صاحب كتاب “نفثة المصدور”، قال: ‌والجواب: ‌أنا ‌لا ‌نذم ‌الزمان ‌من ‌حيث ‌أنه ‌سبب للحوادث كما هو اعتقاد الحكماء، بل من حيث أنه ظرف للحوادث المكروهة، وهذا كما يذم الإنسان السنة المجدية، واليوم الشديد الحر، والبلدة الوخمة الهواء الكريهة الماء، ونحو ذلك، وعلى هذا ورد ذم الدنيا في الأحاديث الشريفة، فلا يرد علينا ما ذكره من هذه الجهة، فافهم وبالله التوفيق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي لا يلام الدهر والدهر هو الله ولا يلام العمر وهو مقدور في المشيئة والعمل والعلم والاخلاق والخلق ولا تلام المصائب والشدة والموت والعذاب بشتى انواعه لانه يمنحك الطاقة والقوة على عكس ما يتصوره المسبب والسبب .كلامك رائع دكتور احمد الزبيدي وفيه من العبر والحكم والاصالة ما يمنحنا رغبة في الحياة اكبر بكثير ما يتخيله اي انسان .مقال جميل يشير الى قدرة بليغة في اللغة والمجازفي الحياة والقدر والانسان مع كامل الحب والاحترام لصاحب المجلة النور الذي يسطع وللقلم المبدع ولمحبي الثقافة والعلم والمعرفة والاخلاق تحياتي

  2. يااااااسلااام 🥰 سلمت يمناك دكتوورنا الفاضل انتقاء رائع للكلمات وسرد المعلومات وسجع بالكلمات زاد المقال جماالا😍يعطيك العافيه باانتظار المزيد والمزيد🙂🙂

  3. نعم يا صديقي، فالشاعر واحد من الناس، يحس كما يحسون،ويشعر كما يشعرون، ويتألم كما يألمون، غير أن احساسه بألم الحياة ومرارتها يترجمه نغما وشعرا وإبداعاً !

  4. ما قرأت أبلغ من هذا الوصف،ولا رأيت أدقّ من هذا التّصوير، ولا تذوقت مثل هذا الأسلوب.
    سلمت وسلم قلمك دكتورنا

  5. مقال رائع
    أردفه بآخر عن الحمامة
    وقول المعري
    أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد.

  6. دكتورنا الفاضل
    هلا تفضلت علينا بمقال عن ما يسمى” المسألة الزنبورية”، ومع من كان الحق فيها، وعند من من الخلفاء عقدت، وغير ذلك مما يجود به قلمك علينا من فوائد.
    وجزاك الله خيرا عن العلم وأهله مقدماً.

  7. سلم فاهك لو ان الناس لم يجدوا ما يذموا لذموا أنفسهم فما وعاء الزمان الا سبب .
    عافاك الله يا دكتور ابو محمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى