مقالات

سر الحياة الأبدية و رحلة المومياوات الفرعونية عبر التاريخ لطيفة محمد حسيب القاضي    –    اليمن

لطيفة محمد القاضي

 التحنيط هو أحد مظاهر التقدم و يدلُّ على ما بلغته العلوم المصرية من تطوُّر ساعد على حفظِ كثيرٍ من الجثثِ سالمة لآلاف السنين، الأمر الذي  بهر كثيرًا من المؤرخين والكُتّاب والكلاسيكيين أمثال  هيرودوتس و ديودورس الصقلي، وبهر من جاء بعدهم.

      بدأت عملية التحنيط منذ 2600ق. م في وقت بناء الهرم الأكبر. و التحنيط هو الطريقة التي يتم بها الحفاظ على الجسد من التلف باستعمال مواد كيميائية، فيبقى الجسم محافظًا على مظهره، ويبدو كأنه حي. وأما الجسم المعالج، فيسمَّى “المومياء”، ويعود أصل مصطلح التحنيط إلى القرن الرابع عشر تحديدًا، والكلمة مشتقة من كلمة mummification تلك التي اشتُقّتْ من كلمة “مومياء”، وما يزال هناك من يعتقدون خطأ أنها مشتقة من كلمة عربية معتبرين أن الكلمة عربية خالصة، ومن الكلمات التي شاعت أيضًا الكلمة الإغريقية embabalming تلك التي تعني إغراق الجسد في البلسم، والمصطلح الفرنسي القديم embausmer ذلك الذي يدل على حفظ الجثث باستخدام التوابل، ويشير مصطلح balm إلى المادة العطرية المصنوعة من “الرتنجية، والزيوت كالبلسم والتوابل” التي استخدمها الفراعنة في تحنيط جثثهم.

فلسفة الموت والخلود عند القدماء المصريين

     أراد المصريون أن يصبح مصيرهم مثل الآلهة “أوزوريس” أول شخصية تحنط في ذاكرة المصريين؛ لأن فلسفة التحنيط هي الحفاظ على الجسد من أجل عودة الروح إليه.

لقد اعتبر القدماء المصريون أن هناك نوعين من الموت: الموت الأول، والموت الثاني، أما الموت الأول من وجهة نظرهم: فهو مفارقة الروح البدن، والدخول إلى عالمٍ غامضٍ؛ ولكنه ليس نهاية الحياة. إنها مرحلة انتقالية لحياة أخرى. أما الموت الثاني: فيعني تحليل الجسد وفساده؛ لأنهم اعتقدوا أن الجسد والروح عند الموت يفترقان، ثم ترجع الروح إلى الجسد مرة أخرى يوم الدفن، وفي النهاية تبقى الروح خالدةً مخلَّدةً في السماء والجسد على الأرض، واعتبروا أن عملية التحنيط تساعد في إيقاف عوامل فناء المادة، ومساعدة جوهر الحياة في المستقر السماوي.

 شكَّلتْ فكرة الخلود أساس الديانات المصرية وجوهرها؛ فأرادوا الخلود وعمدوا إلى الوصول إليه بقلبٍ مبرَّأٍ وجسدٍ سليمٍ. ومن هذا المنطلق عشق المصري القديم الحياة الدنيا، وسعى وعمل من أجل الأبدية الخالدة. يقول “هيرودوت” المؤرخ اليوناني: إن قدماء المصريين هم أول الشعوب التي اعتقدت بخلود النفس”، وورد في النصوص المنقوشة على الأهرام التي يرجع تاريخها إلى الأسرة الأولى: “إن النفس الخالدة لا تموت أبدًا”، وإن فلسفة الخلود، وحياة ما بعد الموت هذا الفكر العقائدي كان من طقوسهم الدينية، وبالتالي كان حفظ الفراعنة لأجساد موتاهم وأجساد حيواناتهم؛ لكي تكون مستقرًّا أبديًّا.

كانت فكرة الخلود عند المصرين القدماء بمعناها الحقيقي تقتصر على فرعون وحده؛ لأنه “ابن الشمس الخالدة التي لا تموت” كما كانوا يعتقدون، وكما تذهب الشمس لتستريح كل ليلة، وتعاود ولادتها كل صباح، أما عامة الشعب فكانت الأرض مأواهم لأنهم “لا يملكون الطبيعة الإلهية الخالدة” حسب معتقداتهم ؛ فارتبطت فكرة التحنيط وحياة ما بعد الموت ارتباطًا وثيقًا بالملكية، وإن الملك وحده صاحب الحق في التحنيط والدفن وحياة القبر، أو حياة عالم الأموات.

اعتقد المصريون القدماء أن الميت في قبره يأكل ويشرب، وأنه بين حاشية الشمس، و في الوقت نفسه ظن بعضهم أن الميت يعيش بين نجوم السماء، بينما ظن آخرون أن الميت يجلس على أغصان الأشجار بين الطيور، وآخرون ظنوا أنه يظل فوق الأرض، حيث تستقر عظامه.

كيف كان يحنط المصريون القدماء موتاهم؟

 كان المصريون يأخذون الجسد، ويذهبون به إلى ورشة التحنيط التي كانت تسمَّى (بيت الطهارة)؛ فيقومون هناك بأداء خطوات التحنيط، وقد اختلف الباحثون في عدد الخطوات. فبعضهم ذكر أنها ثلاث عشرة خطوة، والبعض الآخر أكد أنها أقل من ذلك، ثم يبدأ المحنِّطون بخطوات الغسل والتطهير عن طريق تنظيف الجسد من الأوساخ، ووضعه في حوض الغسل. ويغسل بالماء و”ملح النطرون”؛ وبعدها يتم إزالة الأعضاء الداخلية للجثة بواسطة عمل شقٍّ صغير في الجانب الأيسر من الجسم، وتتم إزالة الرئتين، والأمعاء، والكبد، بينما يترك القلب في الجسد حيث كان الاعتقاد بأنه مركز الذكاء، وستكون هناك حاجة إليه في الحياة الآخرة. وبعد ذلك يتم تفريغ الدماغ بإدخال آلةٍ حادَّةٍ من أدوات التحنيط من خلال فتحة الأنف، ويتم تفريغ الدماغ من خلال الأنف، ثم تترك الجثة حتى تجفّ، ويكون الجسم بكامله مدفونًا بملح النطرون الذي يعمل على امتصاص أي رطوبة في الجسم، ثم يترك لمدة 40 يومًا حتى يجفّ، وبعد أن يجفّ الجسم يتم غسله بماء النيل، وتغطيته بالزيوت لمساعدة الجسم من البقاء مرنًا، وبعد ذلك يُحْشَى الجسم بنشارة الخشب والكتان ليكون شكل الجسم وكأنه نابضٌ بالحياة، ثم يُلَفّ الجسم بعد الانتهاء من التحنيط بطريقة معينة بدءًا بالرأس والرقبة، ثم أصابع اليدين والقدمين، ثم الذراعين والساقين، ويستخدم سائل “الراتنج ” كغراء، وأثناء هذه الطقوس كان الكهنة يرتلون الصلوات وإشعال البخور، ودهان الجسم بمواد خاصة، ولفِّه باللفائف؛ فكانت تلك الطقوس تستمر قرابة سبعين يومًا على حسب اعتقاد الباحثين؛ لكي ينتقل الميت من أهل الأرض إلى أهل السماء.

وبطبيعة الحال، فإن طرق التحنيط الجيدة ظلت حكرًا على الملوك والأمراء والأغنياء، أما معظم سكان مصر، فلم تحنط جثثهم بهذه الطريقة بسبب ارتفاع تكاليفها؛ لذلك كانت توجد طريقة ثالثة للتحنيط رخيصة الثمن خاصة بالناس العاديين، وإن هذه التقنية الأخيرة لم تحافظ على سلامة جثث الموتى فترة طويلة.

تطوُّر التحنيط

 تطور التحنيط في أواخر القرن الحادي عشر ق.م في عهد الأسرة 21 وكان في أروع صوره في الدولة الحديثة، وتعدّ الأسرة الحادية والعشرون أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد من أهم عصور الحضارة المصرية القديمة في مجال حفظ وتحنيط الأجساد؛ لأن التحنيط في ذلك العصر لم تعد مقتصرةً على التجفيف والدهون، ولفائف الكتان، بل أضاف إليها المحنطون خطوات جديدة لم تكن موجودة من قبل مثل تحنيط: جسد “تحتمس الأول” و”أمنحتب الثاني”، و”سيتي الأول”، و”رمسيس الثاني”، وهذه أروع الأمثلة على إتقان المصري القديم للتحنيط، واحتفاظ الجسم بأنسجته،    ففي ذلك العصر ظهر “كهنة طيبة” الذين غلب عليهم طموح الملكية فاغتصبوا ألقاب الملوك، وانتشر السحر والسحرة، وانتشرت سرقة المقابر من أجل البحث عن الكنوز المخبئة.

أدوات التحنيط ومواده

استخدم المحنِّطون أدوات خاصة مثل: فرشاة التحنيط المصنوعة من سعف النخيل طولها 10سم، والإزميل لكسر عظمة الأنف، والمعلقة لاستخراج المخ، والمشرط لقطع البطن، واستخراج الأحشاء منه. والملقاط، والمخزاز، والإبرة لإعادة خياطة فتحة البطن، ومقص برونزي، سباتيولا من البرونز.  حيث كانت أغلب الأدوات مصنوعة من البرونز، كما استخدمو ا في عملية التحنيط مواد مستوردة ومحلية طبقًا للطبقة التي ينتمي إليها المتوفَّى.. ومن أهم مواد التحنيط: الماء الذي استخدمه المحنط كمادة تطهير لإزالة الأوساخ المتعلقة بالجسد. وملح النطرون الذي يساعد على تجفيف الجثة، وهو مخلوط ملحي يتكون من كلوريد وسلفات الصوديوم لسحب الماء من الجسم. والقار الذي يساعد على الحفاظ على الجسم من التحليل والتفسخ، وكان يؤتى بها من بلاد فلسطين والبحر الميت. والحناء التي تستعمل كمادة حافظة وخضابٍ للأيدي والأرجل والشعر باللون الأحمر لبعض المومياوات. وخيار شنبر وهو نوع من أنواع البهارات تستخدم كمادة مجففة. وشمع النحل الذي تُغطَّى به العينان والأنف والفم ولصق الجرح بالنباتات مثل: البصل للحفاظ على الجثة من التعفن، وزيت خشب الأرز الذي يستخدم كمادة تحقن داخل جوف الجثة من أجل تجفيفها.

كانت هذه المواد كلها توضع فوق الجثة وداخلها منذ عصر الأسرة الثالثة عشرة، كما استُخْدِمَ نبيذ البلح، وبعض الأزهار والخضروات بقصد تعطير الجثة.

أسرار التحنيط

لقد كان التحنيط سرًّا من الأسرار التي احتفظ بها القائمون على التحنيط، ولم يبوحوا بأسرار تلك المهنة إلَّا إلى المقرَّبين منهم، غير أن الباحثين قد تمكنوا من التعرف إلى معظم أسرارها، من خلال المعلومات التي تركت في سجلات الكُتّاب والمؤرخين، الذين زاروا مصر في أواخر عهود ازدهارها، ودوَّنوا ما شاهدوا وسمعوا عن التحنيط، وإضافة إلى الاطلاع على المومياوات المحنطة وتحليلها كيميائيًّا مع ما عثروا عليه في القبور من خلال بعض الأدوات والعقاقير التي كانت تُسْتخدم في التحنيط.

كيف اكتشفت أسرار التحنيط؟

تمكنت باحثة دنماركية في “جامعة كوبنهاغن” من كشف تفاصيل إحدى البرديات، تلك التي يعود تاريخها إلى 3500 سنه، حيث ترجع إلى عام 1450 ق.م وهي دليل يكشف أسرار عملية التحنيط، وكان طول البردية يصل إلى 6 أمتار.

لعنة المومياء

     لقد أثارت كلمة “مومياء” في النفس الغموض، وعبور الواقع إلى ما وراء الخيال، فالبسطاء ينظرون إلى الكلمة على أنها جسد ميت قديم تتلبسه الأرواح الشريرة، وتجلب النحس والتشاؤم لكلّ مَنْ يلمسها، أو يقترب منها وزرع هذه الفكرة في أذهان وخيالات الناس كل من الروائيين والسينمائيين. فظهرت الحوادث التي ترتبط بهذا الموضوع في عام 1699 م عندما اشترى تاجر آثار مومياء مصرية، وحملها معه في باخرة إلى أوربا وفي عرض البحر هَبَّتْ عاصفةٌ شديدةٌ، فانقلبت الباخرة، وغرق أغلب من فيها فظن التاجر أن سبب الحادث هو المومياء المصرية التي استدعت الأرواح الشريرة لتقلب الباخرة، فقرر التاجر إلقاء المومياء في البحر.

      ومن أهم الأسباب التي أسهمت في انتشار فكرة اللعنة عن المومياء، الأفلام السينمائية التي جعلت من المومياوات أبطالًا يحيون من توابيتهم؛ كي ينتقموا من الأحياء، وأصبحت هذه المومياوات حقلًا خصبًا لأفلام الرعب والخوف في هوليود، وكل هذا بسبب سوء فهم النصوص المصرية القديمة، حيث كانت هناك كتابات موجودة على أوجه المقابر تهدد كل من يلمس المقبرة بسوء، وكان الهدف الرئيسي من هذه النصوص هو حماية المقبرة من المعتدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى