نظم النادي الثقافي العربي الخميس 5 أغسطس 2024 أمسية شعرية تألقت فيها الشاعرة السودانية ابتهال تريتر ، وأعد د. أحمد عقيلي أستاذ النقد الأدبي والفني في جامعة أم القيوين تعقيبًا على قصائدها اتسم بالنضج ومواكبة الدلالات الشعرية، وقدمت للأمسية وفقراتها مارية طورمش بحيوية وتميز، فاستهلت بتحية وشكر صاحبِ السّموِّ الشيخِ الدكتور سُلطان بن محمّد القاسمي، عضوِ المجلسِ الأعلى حاكمِ الشّارقة، و توجهت بالشُّكْرُ الأوفى للنّادي الثقّافيّ العَربيّ، مُمثَّلاً برئيس مجلس إدارته د. عمر عبد العزيز، “الحاضرِ مَعَنا حتّى في غيابه، وللسادةِ الأعضاءِ الموقَّرين .. وأخصّ بالامتنانِ الأستاذَ الإعلاميَّ المُثقّف محمّد ولد السالم، لإتاحتِه لي فُرصةَ تَقْديم هذه الأمسيَّةِ العَطِرة”.
وبعد تعريفها بالشاعرة المحتفى بها ابتهال تريتر الفائزة لهذا العامِ بجائزة الأمير عبد الله الفيصل، فرع الديوان الشعري بعُنوان “أَخيطُ على مَقاسِ العِطْر”، و د أحمد عقيلي المعقب بقراءةً نقديةً عن ديوانِها الشاعرة قالت : “أمّا الجمالُ البصريّ الأميزُ، فيجسدهُ الأستاذ الفنان خليفة الشيمي، بريشتهِ وألوانِه إمتاعاً لذائقتنا وإهدائه ضيفتَنا لوحةً فنية من إبداعاتِ حُروفياتهِ الفريدةِ، ومن وحي أشعارِها، وعلى الضِّفةِ الأخرى من الإمتاعِ السَّمعيِّ الحسيِّ الأرهفِ، يرافقُنا الثنائي عَزفاً على الغيتار، الموسيقية نادين تقيّ الدين، خريجة المعهد العالي للموسيقا – دار الأوبرا بدمشق، والمهندس محمود الحنّاوي.
ومما قالته عن الشاعرة ابتهال تريتر : “تَعرَّفتُ على حضورِها الشعريِّ الآسرِ من مسافة السّحر، ما دفعني لأتوغّلُ في اكتشافِ صفاءِ جوهرِها .. هي صوتٌ أُنْثويٌّ شِعريٌّ شفيفٌ تَهادى صداهُ من منبَعِ أزليّةِ النّيل لتخُطَّ في صُحفِ التاريخِ سيرةَ شاعرةٍ من خلود السودانِ الأبيّ، فتشكّلتْ في أركانِ هذا الكونِ “عِطراً من مِسْكٍ وعَنبر”.. تخضّبُ الكلماتِ شذىً لنَشْتَمَّ رائحةَ الوطنِ مُزَعْفراً بِزقةِ وبياض نيلِه، مُلَوّناً بشقائقِ نُعمانِ تُرابِ أبنائه.
ابتهال تريتر… محارَتُها الأثيرةُ وطنُها السودان .. وكأنّها تَهْربُ إلى داخِلِهِ كلّما حاصَرَتْها الأَحْزانُ والهمومُ.. خاصةً عندما تَرسمُ خريطةَ طريقٍ شعريّةٍ من “جَلالات سَمراء”، ذلك أنّ يقيناً يسكنُ وُجدانَها بأنه لا بُدَّ من زمانٍ قادمٍ.. سَيَبْقى نيلُها يُطهِّرُ ظَهرَ الأرض حقّاً وعدلاً كما هو أمرُ الله في سرِّ الكافِ والنّون، وهنا استحضر شهادة الناقد الكبير د. صلاح فضل رحمه الله حين أثنى على شعرها بقوله:(شعركُ مكثّفٌ بالشعور، ومضمّخٌ بالعطور أنت يا ابتهال تمثيلٌ صادقٌ لعنفوان السودان).
ومما قالته مقدمة الأمسية عن د. أحمد عقيلي : “يكتملُ جمالُ الإبداعِ حين يحضرُ النقد ليضعَ المتلقي داخلَ دلالاتِ النصِ وكينونتِه، فيكشفَ عن مكامنِ الدُّررِ فيه، ويدفعَ به نحو متعةٍ لغويةٍ شفافة لتنسكبَ في حسيّةٍ عاليةٍ بعد فكِّ شيفرةِ الرمزية وتبديدِ فضاءاتِ السُّريالية فتنسالَ رشاقةُ المعنى ويستحوذَ على العوالمِ والأسرار بالرغمِ من أنّ القصيدةَ لا تستعلي على فهمِ المتلقي بل تتراقصُ متحاليةً بغوايتِها مع ارتقاءاتِه المعرفية…”
قصائد و موسيقى
أنشدت الشاعرة ابتهال تريتر مجموعة متنوعة من قصائدها على وقع تصفيق الحضور وتفاعلهم نقتطف بعضها،وهي في قصيدتها ” توابيت الكلام” كأنها تحيي الكلمات :
خَيطٌ من المَاءِ المُذِلِّ وإبرةٌ
أسِفَت لأن قماشَها الأخطاءُ
زيفٌ هي الناياتُ تغريداتُها
مفتوقَةٌ وخيوطُها خرقاءُ
وحدي وفي قلبي تنام مدينة
فُضْلَى وأنت وأهلها فُضَلاء ُ
منحتْ توابِيتَ الكَلامِ و يَمُّها
ألقته خشْيةَ موتِها الأسماءُ
إني منحتك أنْهُري و جذُورُها
غَرقَى وتَيَّاراتُهُا صَمَّاءُ
قالت لي اللغةُ البريئَةُ أكثرِي
اللونَ المَجازَ فجبتي بيضاءُ
الأَرضُ فسْتانُ البَراءةِ أُثقَلت
بطفُولةِ الإنْسانِ وهوَ عَرَاءُ
لم كُلُّ من فيها يُشقِّقُ صدْرَها
شقُّوا غِطاءَ الأرض وهي غِطاءُ
لم جَاوَرَ الحُزنُ القرَنفُلَ وانتَدَى
بالغُصْنِ والتفَّتْ عليهِ سَماءُ
نحتاج ألفَ يمامةٍ لتدلَّنا
فلربَما من بينِها الزَرقاءُ
قلبا غِفاري الملامِحِ أجفَلتْ
من فرطِ ما يتَحَمل الصَّحراءُ
مُذْ كذَّب الشجَرَ الحرامَ و باسمه
تلد الظلالَ سقوفُه الخضراء
وفي قصيدة أخرى تخوض “ليل المتاهات” حيث “مدينة خوف علمتني عقولها بأن خيالات المجانين أصدق “:
قناديلك الأولى وبحر مطوق
ومرآك منسي ومرآي أزرق
تلمست أعناق النهايات لم أجد
كثيرا يعزينا وفي البدء نشهق
مكاتيبنا في الريح تنسى طريقها
إلينا ولكنا إلى الريح أسبق
كتمت عن الأنهار مائي ومذهبي
ولكن كشاف المحبين ضيق
تركت اعتزالي في يد اللطف فانتهى
فناداك من خلفي الهواء المخلق
وعلقت في ليل المتاهات لم أكن
شعاع انتصافات فساء التعمق
أعدني إلى طل البساتين سورة
تفاسيرها الخضراء تعلو فتحرق
أعدني إلى موجي فراغا فإنني
بشط مزاجي و مغناي مرهق
تعاجم حولي العطر لكن وردة
فصيحة أنظار إلينا تحدق
أقول لها شمي عروقي تقول لي
أنا اشتق من مائي الحنين المؤفرق
مدينة خوف علمتني عقولها
بأن خيالات المجانين أصدق
رحلت بكلي نحو كلي ومن معي؟
طيور وألحان وناي و أينق
وشالا من الذكرى تلفحته فمن
يفك مساميرا تدق فتغرق
لأن غناء ساحليا تأنقت مشاويره
الممشى اصطفاه التأنق
لأن مطارا في الحنايا مشى إلى
بواباته هذا اللقاء المرتق
إطارية كل اتفاقات أنهري
وفي كل مرساة بنود ومأزق
وتطبيل دقاتي لصحراء داخلي
على قدر ما لا يستحب التملق
أنا ملء أجراسي و بوحي أخرس
فمن أين يأتيني الغناء المنمق
أنا كلما وقعت في الليل هدنتي
تجيء نهاراتي بجيش فأخرق
وتعلن انبثاقها من “بَهَاراتُ الحَنِين” لتعيد “نهرَ المستحِيل لأمِّه”ِ :
مُتَوجِسَا غَطَّى الكَّلامَ بكُمِّهِ
مادَامَ قد عَزَّ الصُّعودُ لفهمِهِ
يتهافَتُون ولم يزَلْ في رُشْدِه
يتفرَّسُ الجَوزاءَ وُجهَة سهْمِهِ
يتَقَمَّصُون الريْحَ لم يتنَّبَّهُوا
أنِّي تهزهِزُني أناقةُ وَشْمِهِ
مشَّاءَةٌ لكن رسْطَاليس لم
توقِظهُ فارابيةٌ من نومِهِ
في عودتي أبَديةٌ حَملَت إلى
جسدِ النَّدَى حُبا ملاءَةَ يُتْمِهِ
يَتنافَسُ اللونُ احتفَالا في دمِي
وتفِرُّ أوردَتِي لسَوْرةِ حُلمِهِ
بالله ماجدوى المَقاييسِ التي
لم تَلْقَ في رَسمِي مشيئةَ رسْمِهِ
مذ قسَّموا الأجرامَ قالت ضِحْكَتي:
صُبُّوا تُمامَة رِقَّتي في جُرْمِهِ
تعبت ضَلالاتُ السَّماءِ لأنني
مهديةٌ قسْرا لشهقَةِ نجْمِهِ
من يمهرُونك بالمحبة قُل لهُم
أنا من بهَارَات الحنِين وطعمِهِ
في الفلسَفات الخُضْر جُمْهوريةٌ
ما ضَمَّها عُشْب اللقَاء لعِلمِهِ
الحُبُّ أن تلد الغَمامةُ ماءَها
والماءُ يكتنِفُ الحياةَ بغَيمِهِ
أن نترك الأشْياءَ تعزفُ ضِيقَها
ويشُدُّنا وتَرُ الكمانِ لضَمِّهِ
أن نقتفي أثر التَّشاكُس بيننا
لنرى عناقِيدَ القصِيد وكَرمِهِ
أن نشتري جَوفَا وتابُوتا فكم
طفلٍ بداخلنا مَشَى في يَمِّهِ
يتَعالَق الشَّلالُ كم من صَخرةٍ
يحتاجها وردُ السَّلام لشمِّهِ
كنا سواسِيةً نُربِّي مشْطَنا
كي لا يكسِّرَنا الغيابُ بغمِّهِ
عيناك من نسْلِ الفُتوحَات التي
ذهبت بعرشِ الراسخِين وحُكْمِهِ
عيناك ساقِيتا انبهارٍ قامَتَا
فأعدتَ نهرَ المستحِيل لأمِّهِ
تعقيب نقدي
شارك د. أحمد عقيلي معقبًا بدراسة نفدية حول الشاعرة وديوانها “أخيط على مقاس العطر” ومما جاء في مداخلته:
الشاعرة ابتهال تريتر، أيقونة شعرية، وعلم من أعلام الشعر العربي ، أثبتت وجودها الثقافي الإبداعي، وحضورها الشعري مشاركة مبدعة في الفعاليات الثقافية والأدبية والشعرية، على الصعيد المحلي والعربي، لديها موهبة شعرية عالية جعلتها من الأعلام الشعرية التي يشار إليها بالبنان، ولعلي لا أجانب الصواب حين أقول بأن الشاعرة ابتهال تريتر أنموذج حي للتكثيف الشعري الذي يحتاج قارئاً مثقفاً ثقافة عالية، وبعداً فكرياً عميقاً، ونظرة رؤوية ترى ماوراء السطور.
لأن القصيدة لدى الشاعرة، ليست أحادية الجانب، بل متعددة الرؤى والإرهاصات، حيث جمعت الأسطرة والثقافة التاريخية والدينية والرمز، والصورة الفنية والشعرية، في حنايا قصائدها الشعرية، وهو ما يشكل ثنائية مهمة لدى القارئ، ثنائية: التشويق من جهة، والتحدي من جهة أخرى، مما يشعر القارئ بمتعة الاكتشاف بعد عناء القراءة وجهد التأويل والتحليل .
مقولة مهمة للشاعرة: (كلانا اختار بعضه، كلانا عشق الآخر وأقام سوراً حوله، فهو بيت تمردي وضجيجي وأسراري، وهو عصاي التي توكّأت عليها زمناً ليس باليسير صديقي وحبيبي)
هكذا وصفت الشاعرة المبدعة علاقتها بالشعر.
أصدرت الشاعرة ثلاثة دواوين شعرية، هي: “الإشارات الخفية” و”على شفا الجرح”، ” أخيط على مقاس المطر ” موضوع حديثنا في هذا اللقاء المبارك ،
تثبت لنا هذه الشاعرة المبدعة أن الشعر وليد الموهبة والإبداع، فهي مهندسة، تحمل مرتبة بكالوريوس الشرف في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا .
لديها مشاركات علمية كثيرة وخبرات عملية متعددة ومتنوعة،وعضويات وترشيحات كثيرة جداً جداً لايمكن لنا أن نحيط بها، ولنا أن نقطف من حديقتها الزاهرة بضع زهرات يفوح شذاها
الشاعرة السودانية ابتهال تريتر، في ديوانها الصادر عن دار أجنحة، (أخيط على مقاس المطر)، تمثل في صوتها الأنثوي صوت الضمير الحي للأنثى، هذا الضمير الذي يندمج في الضمير الجمعي ليكون صوتها صوت المرأة العربية، وليس صوتها المفرد، لتصدح قوة شعرية أنثوية خالدة، تثبت الأنثى من خلالها حضورها الشعري . وهي تتربع عبر نتاجها الشعري في برجها الشعري وهي تجلس في ركنها الأنثوي مصغية إلى أنا قلبها وذاتها، لترسم صورها الشعرية من أدوات الأنوثة الكونية، في قصائدها الشعرية الممتدة على أثير ديوانها المتميز.
وفي دراسته التحليلية حول ديوانها “أخيط على مقاس العطر” قال الناقد:
“الديوان أشبه بسفر إبداعي متنوع الأشكال والألوان والإيحاءات، وهي قصائدة مكثفة تكثيفاً عميقاً، ألوانه اجتماع الرمز والأسطورة، والتاريخ والرؤى الفكرية الفلسفية، وهو مايجعلها مادة غنية للدراسات النقدية، لكنها تحتاج وقفات نقدية مطولة، في ساعات وساعات، وأمام هذا المقام الطيب المبارك، لعلي سأقطف من حديقتها الغنّاء زهرات شعرية تكون مرآة تعكس جانباً من جوانب إبداعاتها الشعرية.
* المستوى التعبيري التفكيري:
تشكل العاطفة والشعور الوجداني الصادق المرهف محوراً أساسياً في نتاج الشاعرة ابتهال تريتر، وهي تلون هذا الوجدان الشعرين بإرهاصات فكرية وتصورات فلسفية، في معظمها ذات نزوع تراجيدي، يخفي في حنايا كلماته، وعباراته نوعين من الحزن، الحزن الموضوعي، والحزن الذاتي، مما أكسب لغتها الشعرية صفة الصدقية، الممتزجة بالتراث الثقافي الأدبي، التراثي، التاريخي، الديني، والأسطوري.
يقع الديوان في حوالي مئة صفحة، وهو حديقة شعرية غنّاء تضم حوالي ثمان عشرة، لوحة شعرية مرسومة بالكلمات، وهي عقد فريد، حباته منوعة الأفكار، تفوح منها روح شاعرة صادقة، إنسانية المشاعر، عميقة الطرح والأفكار، ولعلي أرى أن واسطة عقدها، قصيدة:
( إغفاءة على صدر يوكابد ).
مايلفت انتباه القارئ، عنونة الشاعرة لقصائدها، فهي تشكل لوحات فنية زاهية الألوان، مرسومة بالكلمات، وهي ذات مضامين
وجدانية: كما في قصائدها: (ضيوفاً على الريح/ آخر الشعر/ عطر الآنا/ قيثارة تعترف )
إنسانية، وطنية : يفوح من حناياها حب الوطن وعشق الأرض، كما في قصائدها: ( الأرض الطفلة/ تحني الأرض ياقتها/ أعلى شاهق/ أوردة الغياب)
رمزية، تاريخية، دينية، وأسطورية: توظف فيها الرموز الدينية والأساطير مثل: يوكابد، والإلياذة، وغيرها، كما في قصائدها:
( إغفاءة على صدر يوكابد / إلياذة على ملتقى حزنين)
*مهم: المقدمات الدلالية:
ما يلفت انتباه القارئ والمتتبع ديوان الشاعرة، أنها تفتتح كل قصيدة بمفتاح دلالي، يكثّف المضمون الشعري، ويقدح ذهن المتلقي، في تناص معنوي تاريخي أسطوري، مما يجذب المتلقي، ويدفعه إلى توظيف ثقافته الأدبية والشعرية والتراثية في استشراف مضمون القصيدة والتنبؤ بدلالاتها، كما في قصائدها:
( تشطيات: مقولة للشاعر محمد مهدي الجواهري)/ ( عطر الأنا: مقولة لــ ت س اليوت )، ( سحر البدايات: مقولة لمحيي الدين بن عربي)، ( الأرض الطفلة: مقولة لجلال الدين الرومي)، ( عبودية الأضواء: مقولة للطيب صالح )، ( أوردة الغياب: مقولة لأحلام مستغانمي ).
* ثنائية الفلسفة والرمز لدى الشاعرة :
تتقن الشاعرة، بل تبدع في توظيف الرمز في نصها الشعري، وتفلسف حروفها بحرفية وإتقان، لدرجة تجعل قارئ قصائدها محتاجاً إلى ثقافة عالية، وعمق فكري أسطوري، تاريخي، ديني، يجعله قادراً على الوصول إلى مقولات قصائدها الشعرية .
وهذا الحكم ينطبق على معظم نتاجها الشعري، وأخص ديوانها الشعري:
أخيط على مقاس العطر)، موضوع دراستنا وقراءتنا النقدية الجمالية، ولا شك أن الوقوف على هذا الكم الكبير من الظلال الشعرية الممزوج بأديم صفحاتها الشعرية في ديوانها المذكور، يحتاج إلى ساعات وساعات، ولضيق المقام عن الإحاطة بها كلها، لعلي سأتناول ثلاث قصائد شعرية تناولاً جمالياً يلامس مواطن الإبداعي والشعرية فيها من خلال القراءة العمودية والأفقية لها، وهي بلا شك ليست دراسات نقدية بل ومضات وملامسات فحسب، لعل القراءة النقدية المعمقة تكون في دراسة معمقة، تشكل كتاباً نقدياً صرفاً في قابل الأيام، إن قدّر الله تعالى له أن يبصر النور.”
القصيدة الأولى: عدالة الموج:
شرقُ الغيابِ يسارُ المستحيل وبي
شالٌ من الماء أحنته انكساراتُ
جديلتي من كتوف الغيم تتعبها
كف الرياح
وتؤذيها النهاراتُ
متى تُلقّننا الأغصان جملتها
فحكمة الصمغ عند الفأس ملقاةُ
لا فقرَ مادامت الأيام مزرعةً
ومِنجلُ الحبّ أقدارٌ ونيّاتُ
لنقف على عنونة النص ودلالاته، كيف جمعت الشاعرة بين الأضداد؟!
بين العدالة والموج؟ العدالة تدل على القوة والثبات، والبعد عن التغيّر والتقلب، والموج على عكس ذلك تماماً فهو يعني الحركة الدائمة، والهياج، فكيف استقام هذا الأمر لدى الشاعرة؟ لعل هذه المفارقة مقصودة أرادت من خلالها الشاعرة أن ترسم صورة واضحة للحياة، وتناقضاتها، بما فيها من ألم ومعاناة، مصائر البشر بين كفي هذه الحياة، تقلّبها كيف تشاء، وهنا لست أدري هل تقصد الشاعرة ذاتها، ام أنها تستحيل رمزاً إنسانياً، لذلك الإنسان الذي نالت منه الحياة، وأحنت ظهر كلماته، وأبكت حبر مداده، تقول الشاعرة:
شرق الغيابِ يسارُ المستحيل وبي
شالٌ من الماء أحنته انكساراتُ
تجمع الشاعرة الأضداد في مطلع قصيدتها: الشرق والغرب، وكلاهما يحمل الألم والمعاناة في مضمونه، وذلك من خلال ( الغياب )، (المستحيل)، وقد تحول ذلك كله إلى شالٍ أو وشاح يحيط بها، ولكن ماهي ماهية هذا الوشاح؟ وما صفاته؟
هنا تفاجئنا الشاعرة بأنه ( شال من الماء)، وكيف يكون الشال من الماء؟ هنا تقدح القصيدة ذهن المتلقي وتطلق العنان لخياله، فيتراءى له شالاً فضياً رقراقاً، لكنه لا يحمل للشاعرة الدفء والستر والسكينة، بل هو شال تحفّه الانكسارات وتنال منه، وهذا الشال يخفي تحته تلك الضفيرة، والضفيرة في موروثنا الجمعي، تدل على انقاء وبراءة الطفولة، والأنوثة النقية، لكن هذه الجديلة لا يحتضنها ذاك الشال، بل نراها ألعوبة بين الغيوم تثقل كاهلها تارةً، وأخرى بكف الرياح العابثة الغاضبة.
وحين تلجأ إلى النهار هاربة من ذلك كله، يكون النهار هو من يلحق الأذى بها، وهنا نرى أنفسنا أمام تراكمية من الآلام تحيط بهذه الأنثى، حيث لا أمل للخلاص ولا بصيص نور أو إشراقة حياة.
وهنا يتساءل القارئ من هذه الأنثى؟ هل هي إنسان حقيقي؟ أم أنها الأرض تبكي ما حلّ بها من آلام ودمار:
جديلتي من كتوف الغيم تتعبها
كف الرياح
وتؤذيها النهاراتُ
وتتلاقى لدى الشاعرة في بوحها الشعري الأسطرة والرمزية والصورة الفنية، لتولد شعرية النص لديها من رحم الإبداع، تقول:
متى تُلقّننا الأغصان جملتها
فحكمة الصمغ عند الفأس ملقاةُ
هذا البيت الشعري، قصيدة بحد ذاته، فالأغصان تمثل الولادةوالخضرة والحياة، والغصن يستحيل شجرة ممتدة الفروع، إلا أن هذه الولادة لا تكتب لها الحياة إلا بعد معاناة وألم، ومقاومة حثيثة لضربات الحياة وعقباتها، ومطباتها، ولعل هذه العقبات والملمات، مارمزت إليه الشاعرة من خلال: (ضربات الفأس)، تلك الضربات التي تضرب جسد الشجرة، فتسيل دماؤها صمغاً، والصمغ قادر على على إلصاق وعلاج ماتمزق، وترميم ماانكسر، فالحياة تولد من رحم الموت، ومن الانكسارات تولد النجاحات .
ولوحة الحياة كما رسمتها ريشة الشاعرة، لوحة نابضة بالقوة والحياة، ولا مكان فيها لليأس والاستسلام والقنوط، المهم أن تتواجد الإرادة الحقيقية والنية الحسنة، والإصرار والصبر والثبات، تقول:
لا فقرَ مادامت الأيامُ مزرعةً
ومنجل الحبّ أقدارٌ ونيّاتُ
خير من يرسم بالكلمات، ويطاوع اللغة ومفرداتها ونحوها، وبيانها، حيث تفتتح بيتها بـ ( لا ) النافية، مطلقة حكماً لا لبس فيه: لا فقر/ وتتبع ذلك بـ ( مادام الناسخة) الدالة على الاستمرار والتجدد، فالحياة لا مكان فيها للمستسلم الخائف البائس، فهي تقصد الحياة مزرعة العمل الإنساني، كما تزرع فيها تحصد، والمهم في ذلك كله الحب والإخلاص، ولنتأمل هنا ذاك التشبيه البليغ الإضافي، في قولها: ( منجل الحب )، حيث شبهت الشاعرة الحب بالمنجل الذي يحصد القمح ويجني الغلال الوفيرة، ولعلي بلسان حالها يقول: ( كما تزرع تحصد).
لتختم الشاعرة بعد ذلك لوحتها الشعرية وتذيّلها بأسطر شعرية موحية شفيفة موظفة إلياذة هوميروس، هذه الإلياذة التي شكلت حصيلة صراع عشر سنوات، احتضنتها مدرينة طروادة، وانتهت بمأساة مريرة، لكن إلياذة الشاعرة مختلفة تماماً، فهي (أنثى)، والأنثى تعنى الحياة والولادة، والأرض أنثى، والطبيعة أنثى، ولذلك فهي تصنع الحياة، وتبث في حناياها الأمل، وكأني بلسان حال الشاعرة يحاكي مقولة نابليون:
لوحةٌ جميلة موشاة بتراتيل مدادها الألم والحزن الشفيف الموحي، انعتقت فيها الشاعرة من أناها الفردية لتتوحد في الأنا الجمعي، لتكون معادلة: الكل في الواحد، والواحد في الكل .
وللتناص المعنوي الديني حضوره القوي، حيث استعارت الشاعرة شخصية ( يوكابد بنت لاوي) وهي أم النبي موسى عليه السلام، حيث جعلت من هذه الشخصية قناعاً تتحدث من خلاله، وفي هذا البعد دلالة على ثقافة الشاعرة الدينية والتاريخية، فشخصية يوكابد وردت في الكتاب المقدس، في (سفر العدد، الإصحاح السادس والعشرين)، وهي شخصية تحمل الألم والحزن في قلبها على فقد ابنها موسى عليه السلام، وهناك امهات كثيرات انفطرت قلوبهن على فقد فلذات أكابدهن، لكن رغم ذلك كله، تظهر لنا الشاعرة حقيقة مهمة في الحياة، وهي الأمل يولد من وسط الألم، فالله تعالى الذي أعاد موسى عليه السلام إلى حضن أمه، قادر على أن يعيد الابتسامة والحياة والأنس لقلوب الأمهات اليائسات الحزينات، تقول:
بتركيبٍ اسمي يدل على الثبات والاستقرار: (ميقاتك العطر)، الأمل له وقت والخلاص له وقت، حيث تفوح رائحة اليسر بعد العسر، ثم لنتأمل تقديم الشاعرة ماحقه التأخير، في قولها:
(عند المنتهى أسرى)، وذلك لجذب القارئ بشبه الجملة الظرفية، لكن هذا الألم وحرقته، ستزول تحت ظلال النخلة، والنخلة رمز عروبي يعني الخير والعطاء، وظلها الدافئ يستحيل جسراً يمر على أديمه التائهون، أما (يوكابد) التي تطلّ مجدداً من حنايا قصيدة الشاعرة، رمز لكل أم فقدت فلذة كبدها، وهنا تأتي مفردة (التوابيت) مناسبة تماماً لمقتضى الحال.
لا تكتفي الشاعرة بهذا التضمين الثقافي التاريخي والديني، بل نراها تتحدث بلسان (الخنساء)، وهي ترثي أخاها صخراً، تقول:
لا أستعيد خناساً إنما بلدي
في كل جبهة صبحٍ كفّنت صخرا
ونزار قباني وهو يرثي بلقيسه – زوجته وتوأم روحه الغالية، تقول:
بكيتُ كل نزارٍ في رسولته
وصرتُ أتلو على أشلائه شكرا
والشاعرة بين هذا وذاك، قيثارة الوجدان الحي الذي يرثي مأساة الإنسانية، وتموسق مرثيات الإنسان على أحبته الذين فقدهم، وما أكثرهم في هذه الحياة ونكباتها ومآسيها.
ولعلي بالشاعرة أيضاً تمثل صرخة الإنسانية والمحبة والتسامح، وكيف لا تكون كذلك، وهي تحلق في فضاءات شعرها في إمارات الخير، بلاد المحبة والتسامح، ديار المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيبان طيب الله تعالى ثراه.
* ذاتية الشاعرة وقوة أناها المستوحاة من الأنا الجمعي:
أخيطُ من كبريائي ثوب أحجيتي
وأرتوي الشمس
إني بنتها الكبرى
ماعدتُ أرجو سيوفاً كي تنبئني
أنا التي ببقايا نصلها أدرى
تدوزن الشاعرة نصها الشعري بأنفاس ذاتية غنائية، ترى من خلالها أنها سيدة الكبرياء القوية الثابتة، رغم كل الآلام والأحزان المحيطة بها، حيث ترسم لنفسها صورة أسطورية تذكرنا بأسطورة ( بروميثيوس ) حين استرق من الشمس شعلة النور والحياة، بل إنها أكبر من ذلك كله، كونها ( الابنة الكبرى للشمس )، وفي هذا توصيف وتخييل عميق، يثبت قوة الأنثى وصلابتها وانها لا تقل قوة وإرادة عن الرجل .
وفي الختام دعت مقدمة الأمسية خليفة الشيمي مسؤول الفعاليات والمعارض ومحمد ولد سالم رئيس اللجنة الثقافية في النادي إلى اعتلاء المنصة،حيث كرّما المشاركين والتقطا معهم صورة تذكارية.
كلمات شكري وتقديري وامتناني متواضعة أمام إبداعاتكم الإعلامية أستاذنا الغالي, الإعلامي المتميز الأستاذ وائل الجشي, دائماً تبدعون في تغطيتكم الإعلامية الثقافية المتميزة التي تتسم بالعمق والشمول.
دمتم وبوركت جهودكم
كلمات شكري وتقديري وامتناني متواضعة أمام إبداعاتكم الإعلامية أستاذنا الغالي, الإعلامي المتميز الأستاذ وائل الجشي, دائماً تبدعون في تغطيتكم الإعلامية الثقافية المتميزة التي تتسم بالعمق والشمول.
دمتم وبوركت جهودكم