وماهذا الدفق الذي يهزني كلما أضاء الخال الذي يستريح على حافة شفته، حين يبتسم أو يتكلم، ويترقرق صوته كساقية، أو حين يضم شفتيه حنقًا لعبث سارة، وأفكارها المجنونة.
عينا سارة ترمقانه بشغفهما المعتاد، وهو يهزهز قلمه ويرسم على الورقة المستكينة بين يديه خطوطًا متعرجة وحروفًا كبيرة وأخرى صغيرة لاتكاد ترى.
أعرفه جيدًا، حين يفعل ذلك يعني أن الغضب قد استبد به، فلا يركز في ما يكتب.
ترتجف شفة سارة السفلى وهي تضع بين يديه دفترًا بغلاف زهري كالح قليلًا، كدت أشهق وأنا أحاول منعها من التهور وتسليمه كل تلك الأسرار، لكن مابيدي حيلة كل ما استطعت فعله،هو أن أقف مشدوهة بينهما، و أن أتحسر.
لطالما راقبت دفترها وهي تكتب له قصصًا عن نجمة تركت مدارها ولحقت شهابًا ولكنها حين اقتربت من مداره احترقت، حزنت كثيرًا، لم أحب…”
هذا من نص “استعارة” قصة الكاتبة عبير عزاوي.
لا ريب أننا أمام قلم متمكن ساحر ولغة قصدية تؤثث لمناخ سردي ناعم ورومانسي وجنائزي، ولا ريب أن النص حالة من الدهشة بسبب ضبابية الساردة وغموض ماهيتها وشمولية معرفتها التي تقارب مكونات السارد العليم، ولعل معظمنا أعاد قراءة النص ليفهم أبعاد الحكاية التراجيدية أولًا وتفاصيل السرد أمام سردية مجهولة المصدر ثانيًا، رغم ما فضحته عتبة العنوان وجاء المتن ليحاول إقناعنا به، ساردة على شكل استعارة. استعارة واحدة تبحث عن نبض الحياة ولكنها تقص الحكاية كلها بتفرد…
جمالية المسكوت عنه في هذا العمل الأدبي، تتمثل في رمزية الدال والمدلول وهما متواشجان بمحتوى القيمة، فدلالات المعنى هي التي تغير مسارات الحكايات ونهاياتها المغلقة وليس ظاهرها، وهو اتكاء بارع وحساس ورشيق وذكي أعطى للكاتبة مخرجًا…من أزمة الساردة إلى الوجه الخفي من أطروحة هذا العمل، وهي أن براعة المكتوب والمجتث من الواقع هو في النهاية قابع في فضاء اللغة ومجازاتها،
فأين الرؤية المعاكسة إن جاز التعبير؟ تلك التي قد يراها البعض خللًا،أو خروجًا عن النمط وحتى ان كان الخروج رهيبًا، جميلًا، مروعًا او غرائبيًا على المساحة القصصية المألوفة فهو تجديد مختلف لم نعهده من قبل…
الأدب في عمومه إذا حالة خاصة بعناصره وموضوعه وما يتركه من أثر قابل للتقويض أولإعادة الإنتاج والتناسخ والانتشار ضمن فئة التلقي،
وهو حالة آنية كذلك، ينتهي ارتباطنا به بانتهاء القراءة ولا يبقى إلا الأثر، إن شئنا قوضناه، أو أعدنا بناءه أو بقي في الذاكرة الوجدانية… أو تورطنا معه في وعي متناسل يتجدد في كل قراءة مختلفة كما تورطنا بعض النصوص المذهلة التي لن ينساها من يقرأها والتي تغدو حالة ما.
نص الأستاذة عبير عزاوي واحد من هذه النصوص الجدلية، ولكن
أين الخلل وأين أخطأ كسر النمط مساره؟
لقد رسمت الكاتبة لشخصيتها القصصية أبعاد أنسنة واضحة في المتن على خلاف الاستهلال حين تتمنى أن يكون لها نبض ما، ولكنها ليست ابعادًا تتماشى مع سمة الفكرة وتجلياتها، فهي مراقبة عنيدة بقوى خارقة، ولديها مشاعر جارفة تتطور من الإعجاب لمشاعرالحب تجاه الزوج، والذي يضخ فيها الحياة بغموض فلا نعلم الزمكان للخلق المجازي، وهي تعامل خالقيها (قلم سارة وسارة) باستعلاء و تهميش بنظرة محاكمة، ولاتدرك كينونة الأشكال المرسومة لزوج سارة الذ ي تحبه حين يغضب رغم تشابه الجوهر والماهية، وهي أيضا قادرة على التشكل خارج الدفتر الذي تربض عليه متى شاءت هي دون غيرها من العبارات المكتوبة، لتراقب مشهدية الحياة بين زوجين انهكتهما الحرب وقضت على ما تبقى من حبهما، تستطيع في الخفاء أن تخرج من سطر كتابتها الأبدي لتحملق وتحاكم متى أرادت، لكن السرد لا يقنعنا بقدرة هذه الاستعارة على الخروج من دفتر سارة، من سطر ٍخلقها… لتراقب أحداثاً وتربط تخمينات وتصل لاستنتاجات تتحكم بمسار السرد، كيف تستطيع أن تقف وأن تغدو قادرة على الحلم والأمل والتوقع أيضًا…وهي حبيسة دفتر..؟!
ويأتي النص ليتفق مع في الرأي بشأن ما طرح عن الهوية الملتبسة للساردة، أهي دفتر المذكرات، أهي استعارة واحدة مؤلفة من كلمتين أو ثلاث في دفتر يضم عشرات الصفحات المكتوبة، أم لعله سطر واحد قرر (حب من طرف واحد) أن يمنحه الخلود؟ وكما ورد في النص
(على لسان الساردة):
وضعتني جانبًا، وغرقت بحزن أحلامها وحدها”
وها هي تعترف أنها عاجزة عن فهم سلوك سارة”
هذا ما ورد في النص،
ولكن مجازي الغِرّ لا يستوعب ما يحصل،
لكنها تستطيع في النهاية أن تراقب المشهد عن كثب من موقعها (في السطور) وأن تحلق بفضول لأثير المكان و
تقبل غواية الموت…
وإن كانت الساردة تمتلك لغة خطاب تشبهها فتلم بالسمات والأساسيات، فما وجب عليها أن تستطيع أن تمتلك قدرات لا تمت لجوهرها فتتشكل خارج الدفتر متى شاءت، فتغفو، وتشارك “سارة” الأحزان والحالات وتنذر نفسها (تأويلًا) لخالقتها، رغم ان التأويل يخص من يقرأ ومن يتلقى، فكيف بمن أراد التوغل في عمق الكلمة باطنها وظاهرها، فأين هذا من ذاك!
فلو كانت الساردة وردة تراقب الحكاية لمنعها زمكانها من التجول في النص كما تشاء لأنها محكومة بزمن ذبول ومكان تقبع فيه، ولو كانت الساردة (راقصة باليه) لحكمت على مشهدية ما تراه من موقعها اليتيم، فما استطاعت التوغل إلا في حدث تراه ويسمح لها المكان به حتى لو امتلكت حواس ومشاعر، ولو كانت الساردة شبحًا يسكن الجدران لفهمنا قدرتها على العبور بغموض ولا تجانس بحكم جهلنا البشري بما ورائيات الطبيعة إن آمنا بها، وإن كانت حيوانًا أليفًا استطعنا بإدراكنا لكينونة الحياة احتمالية تنقل الزمكان بتنقل السارد المراقب إن كان كلبًا أو هرة، وليس إن كان سمكة ذهبية.
وكما ورد في النص:
“وكنت أنا رفيقة رحلتهما أرتاح على دفتر سارة حينا وأغفو بين أصابعها أحيانًا، سارة سيدة تأويلي، وأنا موضع تنهداتها”
وبموت البطلة”سارة” يشرق محتوى القيمة،وندرك أن المجاز سيموت معها، وقد يبقى وتنتهي الحكاية لتثير توقعات عدة. وافكر ماذا لو كانت الساردة (فكرة)…عندها كنا نصدق كل ما سبق…لتطابق الجوهر مع الأحداث وتقاطع السمات بين السارد وطبيعة سماته ومتنه.
النصوص المميزة هي التي تثير الجدل ومن الاختلاف تكتمل الرؤى