مقالات

وقفةٌ معَ “المسألةِ الزُّنبوريَّة” د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

د. أحمد الزبيدي

غاية هذا البحث أن يجيب عن بعض الأسئلة المتصلة بالمسألة الزُّنبوريَّة، المسألة الشهيرة التي وقع فيها خلاف ومناظرة، بين قامتين كبيرتين من قاماتنا العلمية المؤسِّسَة لتراثنا العربي العظيم لأتَّخذ منها جسراً أعبرُ عليه إلى البحث في مسائل أخرى متفرِّعة ومتنوِّعة مثل موضوعها، وتحقيق نسبتها، وذكرها في المصادر القديمة وتحقيق الحقِّ في صحَّة المذهبين فيها وغير ذلك.

   موضوع البحث:

  أتى حينٌ من الدهر كانت تعقد فيه ‌المناظرات ‌العلمية؛ الأدبية، والشعرية، والفقهية، والأصولية؛ بين العلماء، والأدباء، والفقهاء، وأصحاب الملل والنحل، إذ تعدُّ المناظرات شكلاً تراثياً أصيلاً ضارباً في القدم، نما وازدهر، وبلغ القمَّة في العهد العباسي،  ومن أشهر المناظرات تلك التي كان يعقدها الخلفاء الأمويون والعباسيون، أمثال؛ هارون الرشيد، وولده المأمون، سانّين بذلك سنَّة حسنة، تبعهم فيها من جاء بعدهم من الحكَّام والأمراء. وكانت طريقتهم -كما سترى بعد قليل- استقدام أساطين العلم ودهاقنة الأدب إلى مجالسهم  وسؤالهم المناظرة والمناقشة أمامهم ثُمَّ الحكم بعد ذلك للأقوى حجَّةً على خصمه.

 مسألتنا هذه، من عيون المسائل التي حظيت برعاية الرشيد أو وزيره البرمكي. وقد سمِّيت “الزُّنبوريَّة” لوقوع المناظرة الشهيرة باسمها بين سيبويه والكسائي؛ إمامَي مدرستي البصرة والكوفة، وأفضت -على ما قيل- إلى حتف سيبويه رحمه الله غمَّاً وكمداً.

أمَّا سيبويه المتوفَّى سنة 180 للهجرة فهو إمام النُّحاة وباسط علم النحو، وكتابه في النحو لم يصنَّف قبله ولا بعده مثله. وأمَّا الكسائي المتوفَّى سنة 189 للهجرة، فهو إمام في النحو وسابع القُرَّاء، أدَّب الرشيد وابنه الأمين فَنُقل من طبقة المؤدِّبين إلى طبقة الجلساء والمسامرين.

جاء في المعجم الوَسيط:” الزُّنبور أو الزِّنبار حشرة أليمة اللسع من الفصيلة ‌الزُّنبوريَّة، واحدته زِنبارة وجمعه زَنابير.

قال الإمام الجوهري:” ‌‌‌الزُّنبور: الدَّبْر، وهي تؤنَّث، والزنابير لغة فيها، وربما سمِّيت النحلة زُنبور، والجمع الزَّنابير.” قال الدَّميري؛ قال: ابن خالَويه في كتاب “ليس”: ليس أحد سمعتُه يذكر كنية ‌الزُّنبور إلَّا أبا عمر الزاهد، فإنَّه قال: كنيته “أبو عاصم” وهو صنفان جبليٌّ وسهليٌّ”.

 قال شرف الدولة بن منقذ ملغِّزاً في الزُّنبور والنَّحل:

‌ومُغَرِّدَيْنِ ‌ترنَّما ‌في ‌مجلسٍ

فنفاهُما لِأذَاهُما الأَقوامُ

هذا يجودُ بما يجودُ بعكسِه

هذا فيُحْمَدُ ذا وذَاكَ يُلامُ

يعني العسل من النحل وعكسه اللسع من الزُّنبور.

والمسألة الزُّنبوريَّة حفلت بها كتب العلم والأدب، وذاعت عند أهل التراجم والطبقات، واتفق على وقوعها في بغداد السلف والخلف غير أنهم اختلفوا في “عنديَّة” المجلس الذي عقدت فيه؛ مجلس الخليفة الرشيد أم خالد البرمكي العتيد ؟ والروايات لا تخرج عنهما.

ملخَّص الخلاف في المسألة:

أصل المسألة أنَّ الكوفيّين جوَّزوا أن يقال: كنتُ أظنُّ أنَّ العقربَ أشدُّ لسعةً من الزُّنبور فإذا هو إيَّاها، وذهب البصريّون إلى القول: فإذا هوَ هيَ”.

القصَّة برواية الفَرَّاء:

قال  الفرَّاء إنَّ سيبويه قدم على البرامكة أصحاب الحظوة عنده وإنَّ يحيى البرمكي – وزير الرشيد-  عزم على الجمع بين سيبويه والكسائي، وجعل يوماً  للمناظرة حضر فيه سيبويه وعند يحيى ولداه؛ جعفر والفضل وغيرهم من الأكابر وعدد من علماء الكوفة، على رأسهم تلميذا الكسائي؛ علي بن الحسن المعروف بالأحمر المتوقى (194ه )، والفرَّاء المتوفى( 207ه)، فتقدَّم الأحمر إلى سيبويه قبل حضور الكسائي، فسأله عن مسألة فأجابه سيبويه  فقال له الأحمر: “أخطأت”،  ثُمَّ سأله عن ثانية  فأجابه فيها فقال له: “أخطأت”،  ثُمَّ سأله عن ثالثة فأجابه سيبويه فيها فقال له: “أخطأت”. فقال له سيبويه: “هذا سوء أدب”.  ثُمَّ أقبل الفرَّاء على سيبويه فقال له: “إنَّ في هذا الرجل حدَّةً وعجلة، ولكن ما تقول في من قال: هؤلاء أبونا ومررت بأبينا؟ كيف تقول على مثال ذلك مِن وَأيتُ أو أويتُ؟” فَقدَّر فأخطأ فقال له الفرَّاء: “أعد النظر” فقدَّر فأخطأ ثلاث مرَّات يجيب ولا يصيب، فلمَّا كثر ذلك عليه قال: “لا أكلِّمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره” قال فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: “تسألني أو أسألك؟” فقال سيبويه: “لا بل سلني أنت”فقال: “كيف تقول: كنت أظنُّ أنَّ العقرب أشدُّ لسعة من الزُّنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إيَّاها؟” فقال سيبويه: “فإذا هو هي، ولا يجوز النصب” فقال له الكسائي: “لحنت” ثُمَّ سأله عن مسائل من هذا النوع نحو: خرجتُ فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ؟ فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع دون النصب. فقال الكسائي: “ليس هذا من كلام العرب والعربُ ترفع ذلك كله وتنصبه”، فدفع سيبويه قوله ولم يجز فيه النصب. فقال له يحيى بن خالد: “قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟” فقال له الكسائي: “هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب ووفدت عليك من كل صُقْع، وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المِصْرَيْن وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم، فيحضرون ويُسألون” فقال له يحيى وجعفر: “لقد أنصفت” وأمر بإحضارهم فدخلوا وفيهم أبو فقعس، وأبو زياد، وأبو الجراح، وأبو ثروان- وكلهم من العراب- فسُئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه  فتابعوا الكسائي  وقالوا بقوله.

فأقبل يحيى أو الكسائي على سيبويه فقال: “قد تسمع أيُّها الرجل!” فاستكان سيبويه أي: خضع، وأقبل الكسائي على يحيى فقال له: “أصلح الله الوزير. إنَّه وفد عليك من بلده مؤمِّلاً فإن رأيتَ ألَّا تردَّه خائباً”، فأمرَ له بعشرة آلاف درهم.  فخرج سيبويه وصيَّر وجهه إلى فارس وأقام هناك إلى أن مات ولم يعد إلى البصرة.

وقال أبو سعيد الطُّوال: رأيتُ على قبر سيبويه هذه الأبيات مكتوبة وهي لسليمان بن يزيد العَدَويّ:

ذهب الأَحِبَّةُ بعد طول تَزَاورٍ

 ونأَى المزارُ فأَسلموكَ وأَقْشَعوا

تركوك أوْحشَ ما تكونُ بقَفرَةٍ

\ لم يُؤنِسوك وكُرْبَةً لم يَدْفعوا

قُضِيَ القضاءُ وصِرْتَ صاحبَ حُفْرةٍ

 عنك الأَحِبَّةُ أَعْرَضوا وتَصدَّعوا

المحاكمة:

جرت عادة العلماء اللاحقين النظر في المسائل الخلافية بين العلماء السابقين ثُمَّ الحكم عليها بالأدلَّة والبراهين، ولم يقتصر الأمر على هذا بل تعدَّاه إلى المفاضلة بين الأشخاص والأشياء والمذاهب. ولعلَّ الجاحظ -حسب ظنِّي- أول من ابتدع هذا النوع من التصنيف ففي رسائله الأدبية، يعقد المقارنات، وينظِّم المحاكمات بين هاشم جد النبي عليه الصلاة والسلام وبين عبد شمس، وهي مناظرة بين الهاشميين والامويين، وبين الغلمان والجواري، وبين المعاش والمعاد، وثم علماء آخرون حاكموا ‌ بين (التمر والزبيب) وبين ‌(الحكيم والكيميائي)، وكتاب (مبتكرات اللآلي والدرر في ‌المحاكمة ‌بين العيني وابن حجر)  للبوصيري، معروف ومشهور وكذا ‌‌(الذخيرة في ‌المحاكمة ‌بين الحكماء والغزالي)، لعلاء الدين علي الطوسي، والأمر يطول. غير أنَّني على طول بحثي لم أقع على كتاب في المحاكمة بين سيبويه والكسائي ، وجلُّ ما وقفت عليه كلمات متفرقة ؛ تكلَّفتُ جمعها، وتجشمت وضعها، ومن أشهرها ما قرأته في شرح مقامات الحريري؛  قال الفنجديهيّ:”سألت شيخنا العلَّامة إمام النُّحاة جمال العلماء أبا محمَّد عبد الوهاب بن برّي بن عبد الجبار المقدسي عن المسألة التي جرت بين سيبويه والكسائيّ  وهي قوله: “كنت أظنُّ أنَّ العقرب أشدُّ لسعةً من الزُّنبور فإذا هو إيَّاها”، وسألت عن وجه النصب في “إيَّاها” عند من أجاز ذلك، فاعلم أنَّ مذهب النحويين البصريّين في مثل هذه المسألة أن يكون ما بعد (إذا) مرفوعاً بالابتداء والخبر فيقال: “فإذا ‌هو ‌هي” على حدّ ما في الكتاب العزيز: {فَإِذَا هِيَ ‌بَيْضَاءُ ‌لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108]. وقوله: { فَإِذَا هِيَ ‌ثُعْبَانٌ ‌مُبِينٌ} [الشعراء: 32]. فإذا هنا ظرف مكان وليست كالزَّمانيَّة، وسأفرّق بينهما، وتقديرها في نحو: خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ: خرجتُ فبالحضرةِ زيدٌ قائمٌ، والعامل في (إذا ) قائمٌ. وإن شئت نصبت قائماً على الحال وجعلت الخبر في (إذا) كما تقول: خرجت فإذا زيدٌ قائمٌ، فالقائم بالرفع على الخبر والنصب على الحال. ومذهب الكوفيّين في الحال أن تكون نكرة ومعرفة، ومن هنا منع سيبويه من “إيّاها” في المسألة لأنَّ المضمر لا يقع حالاً لتعريفه وعدم الاشتقاق فيه والحال تكون نكرة مشتقَّة، والكوفيّون يجيزون النصب على معنى: خرجت فإذا زيد قائماً. والأقرب عندي أن يريدوا “فإذا هو موجود إيَّاها” فحذف الخبر وهو موجود لدلالة الكلام عليه، ومثل هذا عندهم: “لئن ضربته ليضربنَّه السّيّد الشريف” فينصبون السّيّد بإضمار، فإذا حملته على هذا تخرَّج”.

وعلى كل حال فكلمة العلماء المنصفين اجتمعت على خذلان سيبويه في هذه المسألة ظلماً وعدواناً، وذكروا أنَّ الحقَّ كان معه وأنَّ قوله هو الحقُّ المؤيَّد والبناء المشيَّد، وهنا نأتي على ذكر رأي اثنين من أعلام النبلاء أو اثنين من أئمَّة اللغة: أولهما: ابن الشجري في أماليه، قال: “وإنَّما أنكر سيبويه النصب لأنَّه لم يره مطابقاً للقياس ولم يرَ له وجهاً يُقارب الصواب، ولمَّا لم يظفر الكسائي بحجَّة قياسية يدفع بها إنكار سيبويه النصبَ كان قصاراه الالتجاء إلى السماع والتَّشبُّث بقول أعراب أُحضروا فسئلوا عن ذلك، وكان للكسائي بهم أَنَسَة وسيبويه إذ ذاك غريب طارئ عليهم، وذكر قوم من البصريّين أنَّ الكسائي قد جعل لهم جُعلاً استمالهم به إلى تصويب قوله. وقيل: إنَّما قصد الكسائي بسؤاله عمَّا علم أنَّه لا وجه له في العربية واتفق هو والفرَّاء على ذلك ليخالفه سيبويه فيكون الرجوع إلى السماع فينقطع المجلس عن النظر والقياس”، وثاني أعلام النبلاء هو  ابن هشام، قال: “يقال إنَّهم -أي العرب الذين استشهد بهم الكسائي- قد أُرشوا على ذلك أو إنَّهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد، ويقال إنَّهم إنَّما قالوا: (القول قول الكسائي) ولم ينطقوا بالنصب، وإنَّ سيبويه قال ليحيى:” مُرْهُم أن ينطقوا بذلك فإنَّ ألسنتهم لا تُطَوَّع به”،  ثُمَّ قال ابن هشام: “(فإذا هو إيَّاها) إن ثبت فخارج عن القياس واستعمال الفصحاء كالجزم بِلَنْ والنصب بِلَمْ والجرِّ بلعلَّ، وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك وإن تكلَّم به بعض العرب.”

فقال اليزيدي في ذلك “من السريع”:

كُنَّا نقيسُ النَّحوَ فيما مضى

على لسان العرب الأوَّلِ

فجاءنا قوم يقيسونه

  على لُغى أشياخِ قُطْرُبُّلِ

فكُلُّهم يعملُ في نقض ما

 به يصاب الحقُّ لا يأتلي

إنَّ الكسائي وأصحابه

يرقون في النَّحوِ إلى أسفلِ

ولأبي نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي “من الرَّمَل”:

أفسد النَّحوَ الكسائي

 وثنَّى ابن غزالة

وأرى الأحمرَ تيساً

فاعلفوا التيس النخالة

      الأخفش يثأر لشيخه:

حين مرَّ سيبويه بالبصرة مخذولاً عرف الأخفش خبره مع الكسائي- وكان تلميذه الأكبر-  ثُمَّ مضى إلى الأحواز، فما كان من الأخفش إلَّا أن تزوَّد وركب سفينة توجَّه بها إلى بغداد ثُمَّ توجَّه إلى مسجد الكسائي وجلس في حلقته  وكان فيها  الفرَّاء وأبو الحسن علي بن المبارك المعروف بالأحمر وهشام بن معاوية الضرير وابن سعدان من الكوفيّين وسأله عن مائة مسألة فأجاب الكسائي عنها بجوابات خطَّأه الأخفش في جميعها حتى أراد أصحاب الكسائي الوثوب عليه فمنعهم وعرفه وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه وطلب إليه أن لا يفارقه فأجابه إلى طلبه حتى إذا ما اتَّصلت الأيام وتوطَّدت الصلة بينهما سأله أن يؤلِّف كتاباً في معاني القرآن فألَّفه فجعله الكسائي له إماماً وعمل عليه كتاباً في المعاني. ثُمَّ إنَّ الأخفش عاد إلى البصرة وجاء الكسائي إليها وسأله أن يقرأ عليه كتاب سيبويه فأقرأه فوجَّه إليه الكسائي خمسين ديناراً أو سبعين.

وقد استوقفني في القصة البحث عن سبب خروج سيبويه من البصرة وهي مملكته، ومزرعته، وبيت عزِّه، ومناط درسه وساحة علمه ،  فهل ضاقت به الحياة في البصرة فذهب يفتِّش عن معلمين بعد الخليل؛ أم أراد أن ينشر مذهبه في بغداد عاصمة الدنيا، ام نقول أنه ذهب إلى بغداد طلباً للرِّزق؟

أمَّا الأولى فلا، فقد فاق سيبويه الخليلَ وسائرَ معلِّميه جميعاً، وكتابه دليل على ذلك؛ فقد جمع فيه كتابه من غرر الشواهد، ونوادر الفوائد، وضروب الحصر، ورصين القواعد، وجليل المسائل ما يندر وجوده في غيره، وبذلك

صار المرجع في اللغة، وصارت ‌مُنْيَة الشيخ أن يفهمه بله أن يدرسه ويتقن ما جاء فيه.

وأمَّا الثانية فنعم، فقد تعوَّدنا من الأئمة الكبار أن ينشروا مذهبهم وعلمهم بطريقتين: الأولى: البقاء في بلده حيث يكون مثابة لطلاب العلم والسائلين من شتى انحاء الدنيا. والثانية: إذا عزَّ ذلك سعى الشيخ بنفسه خارج بلده لنشر مذهبه وعلمه من خلال التعليم وعقد المناظرات مع المنافسين من أجل إحقاق الحقِّ وتصحيحه لا طلباً للنصرة والغلبة والتفوق كما يظنُّ الجُهَّال.

وأما الثالثة فأستبعدها تماما، فرجل كسيبويه نذر حياته للعلم، وأنفقها في تدوينه  وتحريره، مجانبًا لمجالس الحكام، ومناوئًا مداهنتهم ، لا يترك عرينه لذلك.

 وحسبك من سيبويه جرأته في القدوم إلى بغداد مدرسة الكسائي وعرينه وساحته والكسائي هو من هو قرباً من السلطة ، وأصحاب الأمر ومؤدِّب الخليفة وابنه.

 وكم تحريت  أنَّ سيبويه انطلت عليه الحيلة ووقع في الفخِّ، فكيف تهيَّأ له وهو آت لمناقشة الكسائي أن يناقش تلامذته الذين حاولوا أن يفتُّوا من عزيمته ،ويوهنوا من كيده بالحيلة والكيد والقهر؟ علمًا أنَّ الفرَّاء الذي نصب نفسه قاضياً يحكم بخطأ سيبويه في كل ما قال وجدوا تحت وسادته بعد موته كتاب سيبويه.  ثُمَّ كيف يرضى سيبويه أن يحتكم إلى “أعراب الحطمة” يقفون بباب الخليفة وهم تركوا باديتهم منذ زمن بعيد ونزلوا بغداد فضعفت سليقتهم؟  وكيف يرجو من قومٍ النَّصفة وهم يعرفون الكسائي ومنزلته من الخليفة؟

أسئلة قد نهتدي إلى أجوبتها يوماً ما.

ختاماً، قد أحسن أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري الأندلسي حين نظم هذا المعنى في قوله:

والعُرْبُ قد تحذف الأخبار بعد “إذا”

  إذا عنتْ فجأة الأمر الذي دهما

ورُبَّما نصبوا بالحال بعد إذا

  ورُبَّما رفعوا من بعدها، رُبَما

فإن توالى ضميران اكتسى بهما

وجه الحقيقة من إشكاله غمما

لذاك أعيت على الأفهام مسألة

 أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما

قد كانت العقرب العوجاء أحسبها

   قدما أشد من الزنبور وقع حما

وفي الجواب عليها هل “إذا هو هي”

 أو هل “إذا هو إيَّاها” قد اختصما

وخطَّأ ابنُ زياد وابنُ حمزةَ في

ما قال فيها أبا بشر، وقد ظلما

وغاظَ عَمْرًا عليٌّ في حكومته

يا ليته لم يكن في مثلها حكما

(كغيظ عمرو عليًا في حكومته

 يا ليته لم يكن في مثلها حكما)

وفجَّع ابنُ زياد كلَّ منتحِب

  من آله إذ غدا منه يفيض دما

(كفجعة ابن زياد كلَّ منتحِب

من آله إذ غدا منه يفيض دما

 وليس يخلو امرؤ من حاسد أضِمٍ

 لولا التنافس في الدنيا لما أضما

والغبن في العلم أشجى محنة علمت

وأبرحُ الناس شجواً عالمٌ هضما

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫12 تعليقات

  1. ابدعت دكتور احمد الزبيدي وانت المعروف عنك التمحيص والتدقيق والبحث عن نوادر العرب والنبش في التاريخ والادب العربي والاجادة والابداع في ذلك وحسن النظرة النقدية لديك واعتقد ان سيبويه على سعة علمه وذكائه كان حدا عصبي المزاج متطرف لرايه وعلمه وعلى العالم ان يكون وسيع الصدر رحب التفهم وكان الكسائي اكثر استيعابا وتفهما وتقبلا واحتراما على العلم انه لا يوجد انسان لا يخطئ او يسهو او يلحن وهذه صفة الانسان العالم مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولكل ما كتبته من درر ومنك نستفيد ونستزيد علما تحياتي .مهند الشريف

  2. يسعد قلبك د. أحمد ما الذ وأطيب بحوثك ، وما اجمل مواضيعك ، وفقك الله لطرد الجهل من عقول الأمة المتربصة بكل من أراد عزتها ….بارك الله فيك ومنك .

  3. سرد سلس وعرض موفّق ليتك تتبعه بعرض لمسألة الكسائيّ مع الأصمعيّ ومسألته مع اليزيديّ وغيرهما حتّى يكتمل العقد.
    بوركت د. أحمد.

  4. سلمت أناملك دكتور أحمد وزادك الله علما فوق علمك
    بوركت جهودك المبذولة في سرد المعلومات بطريقه سلسه وجميله🙂بانتظار المزيد والمزيد

  5. السلام عليكم دكتور أحمد
    وتبقى تفيض علينا مما أفاض الله عليك من العلوم وأحوال الماضي العريق للعرب والعربيه .
    جزاك الله عنل كل خير ولا تبخل علينا بالمزيد.

  6. علي الرغم من انني لست من أصحاب التخصص
    ولكنك دكتورنا تتحفنا بما هو جديد
    وتدفعتا للبحث
    والتمتع بالفهم بما تتناوله من مواضيع
    بالتوفيق

  7. هذا مقال لا يُمل من قراءته مرات ومرات. سلمت يداك. مقال في غاية الروعة والسلاسة.
    ادام الله قلمك دكتورنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى