مقالات

“قصة الإيمان” بين الفلسفة والعلم والقرآن د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 “قصة الإيمان” لمؤلفه الكاتب اللبناني نديم الجسر كتابٌ جَلِيلُ القدر، رفيع الذكر، نَافِذ الْأَمر، عظيم الفائدة، جَزِيل العائدة، سَدِيد الْمَنْهَج، ربُّ القنا، لا ربة الهودج، قَرِيب الْمَنَالِ، دَانِي الْقُطُوف، نادر الكسوف  سَهْل الأُسْلُوبِ، ضافي ‌الضرّوبِ عَذْب الْمَوْرِدِ، فريدُ الْمَوْلد، نَاصِع الْبَيَانِ، قاطع البرهان.

 طبقت شُهرتهُ الآفاق، وذاع صيتهُ في مصرَ والشامِ والعراق، صدر عن مؤلِّفٍ مِفَنٌّ، ومُصنف ‌مِعَنٌّ، وضعه عالم جليل، ‌ذو ‌باع طويل، ودأب ‌مَلِيلُ.

 ورحم الله القائل:

 من كان يبغي السير في ‌المنهج

فليأت نادي الأوس والخزرج

سلك صاحب الكتاب فيه أسلوب الحوار لتوضيح المسائل،  وتفسير والمُجانِس ‌والمُشاكِلُ، فجاءت طريقته مَقْبُولَة، وسيئاته مغفورة، بعيدة عن الملل، مبرأة من الخلل. يناقش ذلك في ما هو يرود ويخوض غمار الفلسفة الميتافيزيقية.

أرَّخ المؤلف في كتابه قصة البحث عن واجب الوجود،‌وحاول فيه الإجابة عن الأسئلة ‌الكبرى؛ حول الإنسان والكون والحياة، والخلود، كيما يصل بالقاريء إلى شاطيء الطمأنينة العقلية، وبر السكينة النفسية.. تلك العقدة الكبرى التي ضلت البشرية في تلمس الطريق إليها، وفي مقدمتهم ؛ طاليس، وهرقليطس، وأنا كسمندر، وأنا كسمينز، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو طاليس، ومن بعدهم ؛بيكون، وديكارت، وباسكال، ومالبرانش، وسبينوزا، وهيوم، وكانت، وبرجسون، ودارون، وغيرهم الكثير الكثير من الفلاسفة والمفكرين، تاهوا في دياجير الشك والحيرة والضلال المبين، فأوصل كثيرا منهم إلى دروب الإلحاد، وعبادة الأوتاد، وتقديس الحجر، والصلاة للشجر، وعبادة الهوى من دون الله تعالى،ففي القلب خرقْ لا يسده إلا الاعتقاد الحق ، وفي الطريق إلى ذلك دافع المؤلف عن قيم متأثلة، ومعانٍ متأصلة، ضاربة بجذورها في أعماق الغريزة والفطرة الإنسانية، فهو يفسر العلاقات الطاهرة، و الوشائج الباهرة ؛ بين الإنسان وخالقه، كيما تستقيم، فإذا استقامت؛ استقام بها ومعها سائر العلاقات الإنسانية على ميزان من العقل، والنقل، والحق المبين ، فالإيمان بالله – كما يقول نديم الجسر-  هو : “رأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة. وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه. والعروة الوثقى بين الإنسانية ومثلها الكريمة، ولا يخدعنك عن هذا من يقول لك: إن مكارم الأخلاق تغني- بوازع الضمير- عن الإيمان، لأن مكارم الأخلاق، التي تواضعنا عليها للتوفيق بين غرائزنا وحاجات المجتمع، لا بد لها عند اعتلاج الشهوات في الشدائد والأزمات، أن تعتمد على الإيمان، بل إن هذا الشيء الذي نسميه ضميرًا، إنما يعتمد في سويدائه على الإيمان، وانقياد الناس لمكارم الأخلاق، إنما يكون بزاجر من السلطان. أو وازع من القرآن، أو رادع من المجتمع”

أقام نديم الجسر كتابه على حوار بين شخصيتين رمزيتين؛ شخصية الشيخ الموزون” يمثل دور الأستاذ، وحيران بن الأضعف ويلعب دور “التلميذ” المحزون

أَلا لَا تلمه الْيَوْم أَن يتبلدا

فقد غلب ‌المحزون أَن يتجلدا

ولأمر ما جعل مكان لقائهما “خَرْتَنْكُ”، قال ياقوت:” قرية قريبة من سمرقند ، بها قبر إمام أهل الحديث؛ “البخاري”، وقد يتساءل القارىء عن سر اختياره هذا، وهو الذي يشيد بصحيح الفلسفة اليونانية؟ والجواب على ذلك إثبات ” درء تعارض العقل والنقل” كما عبر عنه الإمام ابن تيمية، وأن العقل هُوَ ‌الْحَاكِمُ ‌الَّذِي ‌لَا ‌يُعْزَلُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَشَاهِدُ الشَّرْعِ وَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُزَكَّى الْمُعَدَّلُ” كما عبر  حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.

 وعلى امتداد الكتاب يقف المؤلف وقفات مع الفلاسفة ليزيل الارتياب؛ مصححا أفكارهم تارة، ومخطئا لها تارة، وفي الحالين يناقش ويحاور بالأدلة والبراهين.

ومن تلك الوقفات؛ وقفته مع الفيلسوف الألماني “كانت” حيث يقول: ” كُلُّ محاولة يبذلها العقل للوصول إلى كنه الحقيقة النهائية؛ هي محاولة فاشلة”، وقد وافقه في رأيه، على” أن قوانين العقل المنظمة  تطبق في ميدان الظواهر الحسية فقط ” . وهذا الرأي الذي انتهى اليه الفيلسوف كانت، بعد بحث، وتنقير، وتمحيص، يعرفه كل مسلم، قال العلامة ابن خلدون : «… ‌العقل ‌ميزان ‌صحيح، وأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، …فإن للعقل حد يقف عنده”.

فقد قرر عدد من محققي الفلاسفة أن “العقل ليس مصدراً ثقةً للحقيقة، ففي كثير من الأحيان يستطيع العقل أن يثبت الشيء، ويثبت عكسه”.

يقول  المؤلف إن الشمس تدور حول الأرض، في ما أصبح من المتفق عليه أن هذه المعلومة خاطئة”، وعند الحديث عن خلق السماء بلا عمد، وخلقها المحكم ذكر رأي العلم وقوله بأن “ذلك الإمساك راجع إلى قوة الجاذبية التي شاهد العلماء آثارها، وأحصوا أطوارها، ومسوا سطوحها، ولم يسبروا أغوارها، وعرفوا قوانينها، ونواميسها، ولم يعرفوا بعد أسرارها”. ثم تراه يعلق: والحق ما قالوا، فالجاذبية حق وقوانينها المحسوسة المتزنة المتناسبة المحكمة الدقيقة حق، ولكن هل يكون القانون الدقيق المحكم أثرًا من آثار المصادفة العمياء!

وعند حديث المؤلف عن القمر ومنازله، وأنواره، ونظامه، وما في ذلك من الدلالة على عظمة الخالق، تراه يعقَّب على ذلك بقوله :” فهل كل هذا النظام والإحكام الذي خص الله به القمر في حركاته المحسوسة، ودوراته المكتوبة، ومنازله المقدرة، وأقداره المسخرة، وأنواره المكتسبة، وأطواره المرتقبة، أثر من آثار المصادفة العمياء …!

وربما يكون الشيخ العالم  نديم الجسر تأثر بمن سبقه من الفلاسفة  و العلماء، مع مراعاته لعصره، ومقتضيات مصره ، فهو يذكرنا بالفيلسوف ‌ابن طفيل في  رسالته “حي ‌بن ‌يقظان”، فالحيُّ عنده رمز للنفس الكلية، واليقظان رمز للعقل، لأنه أشبه بالحي من النائم. ويذكرنا أيضًا برسائل ابن سينا : “‌حي ‌بن ‌يقظان”، و‌رسالة “‌الطير”، حيث أشار فيهما إلى حديث النفس، وما يتعلَّق بها على اصطلاح الحكماء، ورسالة: ” سلامان ‌وأبسال” ويرمز في هذه القصة إلى  المقابلة بين الأفراح الدنيوية وسرورها، والأفراح الآخروية وحبورها، وفضل هذه على تلك.

وكل هذه الكتب والرسائل لها معنى واحد؛ هو الدفاع عن الدين. والحق أن كتاب نديم الجسر عمدة في بابه، فقد ناقش مفهوم الايمان بالأدلة العلمية، والبراهين الفلسفية، على ضوء الوحي، وهو كتاب مفيد لتحصين الشباب، في مواجهة الأوشاب، والهَمط، والخلط، من الأباطيل والأضاليل، ولنفاسته فقد ترجم الى عدة لغات.

  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫13 تعليقات

  1. اللهم زدني علما . العلم والعقل اشارة عظيمة إلى ان هناك عقلًا كاملًا.. برمج هذا العقل البشري على الاكتشاف واسلوب الحياة وتطويرها وايجاد حلول لمشاكله الكثيرة ذات الخيارات والاحتمالات المتشعبة والتي تضعه امام الحل الامثل .كتاب الجسر كتاب قيم شوقتنا لقراءته والتفكر فيه و نفهم ان كثيرا من الايات القرآلآنية تدعو للتفكر والعقل .افلا تعقلون .افلا تتفكرون .والذين يتفكرون في خلق السموات والارض .وفي انفسهم . .شكرا دكتور احمد الزبيدي على هذا العرض للكتاب وتقديمه لنا بصورة جميلة .موضوع مهم يجب علينا ان نقرا لنفهم ونصل للحقيقة التي تترسخ في عقيدتنا .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير تحياتي .مهند الشريف

  2. حضرة الفاضل د أحمد
    بارك الله فيك على هذا الاختيار، ولي استفسار أرجو أن تجيبني عليه
    أنا اطلعت على كتاب الجسر، ولكن كأنك تحاول أن تشرح الكتاب بأفكار من كتب أخرى. أليس كذلك؟

  3. صباح الخير يا دكتور
    مزجت الحكمه والفلسفه في وعاء المعرفه والايمان في شرح كتاب نديم الجسر
    جزاك الله كل خير على ما تفيضه علينا كل يوم بما هو جديد

  4. قراءة جميلة لعنوان عظيم وسرد موفق للمحتوي واقترح علي كل شخص يحب القراءه ان يقرأ الكتاب والتمعن في المفاهيم العلمية والفلسفية التي تقود في النهاية الي الفطرة والتي تقودنا الي الله…. إلا من أبى

  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    صبحكم الله بالخير دكتورنا العزيز
    بوركتم سيدي وجزاكم الله خيرا

  6. الله يفتح عليكم فتوح العارفين الزاهدين الهادين المهديين إلى دينه القويم .

  7. مقال جميل، ولكن يحتاج الى تفصيل اكثر، فهذا موضوع حاضر عميق بسبب مشاغل الناس وعزوفهم عن القراءة وكثرة اللغط في الشبكة الرقمية وما يبثه اصحاب الفلسفة والغوغاء عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى