مُطلّقتان في المهجر” رواية كتبها رجلٌ ملتزمٌ بالدفاع عن حقوق المرأة أينما كان، حتى يُخيّل للقارئ أن الكاتب حريص على حقوق النساء أكثر من حرصهنَّ على حقوقهنّ، ومدافعٌ عن مصالح الضعفاء أكثر من الضعفاء أنفسهم ، ولعلّ هاتين الصفتين من أهمّ صفات الروائي د. نزار دندش، الشاعر الذي ترفع قصائدُه المرأة الى ما فوق النجوم، وهو الروائي الذي كرّس الكثير من رواياته السابقة لقضايا المرأة الشرقية والغُبْن الذي يلحق بها نتيجة ما تعانيه في هذا الشرق الفسيح من الفهم المُحَرّف والمشوّه للعادات في تحديد الحقوق والواجبات. في روايته الأولى “حوار في الممنوعات” اختار البطلة فتاةً مثقفةً ومناضلةً حدّتْ من طموحاتها العادات المتوارثة في المشرق العربي، وفي رواية “حب عابر للقارات” كانت البطلة فتاة هندية أحبَّتْ شاباً مسلماً إبان التوتّر الناجم عن تدمير التماثيل، وقد انتصر في تلك الرواية الحبُّ العابر للقارات على الحقد العابر للقارات، وفي رواية “ربيع المُطلّقات” كانت البطلات مطلّقات من كل طوائف لبنان تابَعْنَ قضاياهنَّ في مختلف المحاكم، واتفَقْنَ على التصدّي سويّةً للغبن الناتج عن سوء فهم العادات، وفي رواية “ذاكرة الأفيون” ظهر الغُبْنُ الناتج عن الذكوريَّةِ اللامحدودة في عادات أبناء الأرياف البعيدة عن المدن.
في روايته الأخيرة “مُطلّقتان في المهجر” توسّع الكاتب في توصيف الذكورية المتمادية ومعاناة النساء من ذلك على لسان سيّدتين ، الأولى نازحة سورية إلى لبنان، والثانية لبنانية من أبناء الريف.
هاتان السيدتان شكّلتا اتحاداً نَسَويّاً وسجَّلتا خرقاً في جدار الذكورية الريفية المستفحلة لا سيما في حالة النازحين القادمين من الأرياف البعيدة . وكان لبرنامج الامم المتحدة الذي يهتم بحماية النازحين دور فعّال في حماية بطلة الرواية الأولى النازحة سعدا التي تصادقتْ مع بطلة الرواية الثانية اللبنانية سعاد، وكان ان تواعدتا على اللقاء في المهجر فهاجرتا بفعل إصرارهما على إثبات الوجود . وكان هاجس سعدا ان تؤمِّنَ لأولادها الدراسة الفعلية التي يُحْرَمُ منها أطفالُ النازحين السوريين في لبنان . وقد استطاعتْ ان تُحَقِّقَ حُلمَها الأدنى وتهاجر مع أطفالها الخمسة الى كندا لتحقّق حلمها الأعلى وهو إيصال أبنائها إلى الجامعات.
ويُسلِّطُ الكاتب الضوء على معاناة النازحين المتعدّدة الأوجه وبخاصة أولئك المولودين في لبنان بعد نزوح أهلهم إليه ، فهم محرومون من دفء حضانة الوطن وعاطفته التي لا تُضاهيها عاطفة ، بل هم عُرْضَةٌ لمحاولات دفعهم الى نسيان الوطن ، وشبابهم يُغَرَّرُ بهم فيُدْفعون الى الدخول في عصاباتٍ مُخالفة للقانون كي تُرتَكَبَ بإسمهم المخالفات المختلفة.
صحيح أن منظمات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات تُقدِّم مساعداتٍ ماليةً للنازحين ، لكن هذه المساعدات لا يصل منها إلا القليل ، وهذا القليل الذي لا يسدّ الحاجة يُساهم في نشر الأُمِّيَّةِ الجماعية، فيجعل أكثر من مليون إنسان خارج التعليم المدرسي الفعلي وخارج التربية الوطنية.
مُطلَّقتان في المهجر” روايةٌ عميقةٌ باسلوبٍ سهلٍ ممتنع . في كل سطر من سطورها حِكمةٌ أو كَشْفٌ عن مستور، وفي كل مقطعٍ مُفاجأةٌ وتشويقٌ ولهفة وانتظار.
هي رواية من الواقع المُعاش في هذا الزمان ، وقد نقله الكاتب بأسلوبِهِ السلس وتعابيره المُستمدّة من الواقع حتى لَيَشعر القارئ بأن الراوي قد عاش بين أبطاله وشارك كلاً منهم هواجسَه وأفكارَه وطُرقَ تعاطيه مع الآخرين ، وقد رفع التكلُّفَ في الحديث بين الأبطال كي يُسهِّلَ استنطاق أبطاله ويدفعهم إلى قول كل ما يفكرون فيه في هذه الظروف المُعقّدة التي لا يبوح فيها الإنسان بأسراره ، لا بما يُزعجه ولا بما يُرضيه.
لم يستحضر المؤلف الماضي بل قرأ في واقع الحاضر واصفاً دورته الاجتماعية بما فيها من تموجات استثنائية قلّ نظيرها على مساحة لبنان وبعض الجوار، ودفعنا إلى استلهام بعض ملامح الآتي من الزمان المنتظر.
في روايته الخامسة عشرة التزم الروائي نزار دندش بأسلوب السردية الكلاسيكية والتسلسل المنطقي للأحداث ، فربما كان لشخصيته العلمية تأثير على اسلوبه الروائي من حيث الواقعية والصدقية والانضباط بدءاً من الأمثلة والاستشهادات، ووصولاً إلى الصور المُتخيّلة في ذهن القارئ.
قرأتُ هذه الرواية بشغف من يشاهد مسلسلاً بالغ التشويق، وقد ساعدني أسلوب الراوي المُشوِّق على امتداد صفحات الكتاب الذي لا يخلو من الفكاهة حتى في المواقف البالغة التعقيد.
إني إذ أُهنِّئُ الروائي د. نزار دندش على نجاحه في صياغة الواقع المُعاش روايةً مؤثّرة وممتعة أنصح متذوقي الرواية بقراءتها وأرى عنوانها “مُطلّقتان في المهجر” يحملنا إلى فضاء مفتوح على المفاجآت.