مقالات

وقفات مع المتنبي وشعره (2)     د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال أبو الطيب المتنبي :

‌ظَلْتَ ‌بها ‌تنطَوي ‌على ‌كَبِدٍ

نضيجةٍ فوقَ خِلْبِها يَدُها

‌الْخِلْبُ: حِجَابُ القَلبِ، أو الشَّغافُ.

وفي التنزيل: {قَدْ ‌شَغَفَهَا ‌حُبًّا} [يوسف: 30] عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ: «دَخَلَ حُبُّ يُوسُفَ فِي شِغَافِهَا».

قال المَعري: “يريد ظَلَلْتُ، فحذف إِحَدى ‌اللاّمَيْنِ تخفيفاً، كقوله تعالى: { فظلتم تفكهون}. يقول: ظللت، بتلك الدار تنثني على كبدك واضعًاً يدك فوق خِلبها، والمحزون يفعل ذلك كثيرًاً لما يجد في قلبه من حرارة الوجد يخاف على كبده أن ينشق.

وقد يقيمون ‌الكبد في هذه المواضع مقام القلب، قال الشاعر:

‌ولي ‌كبدٌ ‌مقروحةٌ مَنْ يبيعُني

  بها كبداً ليستْ بذاتِ قروحِ

أباها عليَّ النَّاسُ لا يشترُونَها

ومَنْ يشترِي ذا علَّةٍ بصحيحِ

 وقد أخطا العُكْبَري-رحمه الله-(بعد 665 هـ). نسبة إلى «عُكبَرا» بالقصر، بضم العين، وإسكان الكاف وفتح الباء والراء، بُليدة على «دجلة» فوق بغداد بخمسة فراسخ،والعكبرة من النساء: الجافية الخلق، فزعم أن الناظم جعل اليد نضيجة، مخالفا بذلك شُرّاح المتنبي. وفي التنزيل : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ ‌جَنَاحَكَ ‌مِنَ ‌الرَّهْب}[القصص: 32].

(عَشِيَّةَ أَثْنِىْ البُرْدَ ‌ثُمَّ ‌ألوثُهُ

على كَبِدِى مِنْ خَشْيَةٍ أنْ تَقَطَّعا)

وقال الآخر:

(وأذْكُرُ أيَّامَ الحِمَى ثُمّ أنْثَنى

عَلى كَبِدِى مِنْ خَشْيَةٍ أنْ تَصَدَّعا)

فمراد المتني نضج الكبد لا نضج اليد.

وقالوا في هذا البيت: هذا مأخوذ من أبيات أنشدها محمد بن داود الجراح.

لَهُ من فوق وَجْنته

يَدٌ ويَدٌ على كَبدِهِ

يَسكنُ قَلْبُه بيدٍ

   ويمنحُ غَيره بِيدهِ

قال ‌التِّنِّيسي المعروف بابن وكيع (ت ٣٩٣هـ) في كتابه “المنصف” :” فالشعر المأخوذ أعذب لفظاً”.

وإذا كان الرجل المحزون يضع يده على كبده لما يجد في قلبه من حرارة الوجد، وخوفًا عليه أن ينشق، فإن المرأة تضع يدها على رأسها، أو على وجهها مداراة من الخجل أو الوجل!

قال ابن كثير: جَرَتْ به-تغطية الوجه- عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب.

وفي التنزيل: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ‌فَصَكَّتْ ‌وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] قَالَ مُجَاهِدٌ: {صَرَّةٍ}: «صَيْحَةٍ»،

{فَصَكَّتْ}: ” فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا، فَضَرَبَتْ بِهِ جَبْهَتَهَا.

وفي “الكامل في اللغة والأدب” لمحمد بن يزيد المبرد جاء : ” ‌‌قال أعرابي من بني سعد وقد نزل به أضياف، فقام إلى الرحى فطحن لهم، فمرت به زوجته في نسوة، فقالت لهن: أهذا بعلي! فأعلم بذلك فقال:

‌تقول ‌وصكّت وجهها بيمينها

أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس

فقلتُ لها لا تَعجبي وتبيَّني

بلائي إذا التفَّتْ عليَّ الفوارسُ

قال ابن جني في “الخصائص” :” فلو قال حاكيًا عنها: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس -من غير أن يذكر صك الوجه- لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة؛ لكنه لما حكى الحال فقال: “وصكت وجهها ” علم بذلك قوة إنكارها وتعاظم الصورة لها. هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها ولو شاهدتها لكنت بها أعرف ولعظم الحال في نفس تلك المرأة أبين، وقد قيل “ليس المخبر كالمعاين”.وهو حديث أخرجه أحمد (1/ 215، 271).

والْيَقِين يقينان؛ علم الْيَقِين، وَعين الْيَقِين ؛ وَهَذَا أَعلاهُما ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أَو لم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} أَي يَقِين النّظر. قال ابن بطال في شرحه على البخاري:” فطلب الطمأنينة بالمعاينة، وهى زيادة فى اليقين.

وقال تعالى: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا ‌عَيْنَ ‌الْيَقِينِ) [التكاثر: 7] ، فجعل له مزية على علم اليقين. قال عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ هـ) ” دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآي والسُّوَر” :” والفرق بين علم اليقين و {‌عَيْنَ ‌الْيَقِينِ} أن علم اليقين يؤثر في القلب لا في النفس، و {‌عَيْنَ ‌الْيَقِينِ} يؤثر فيهما جميعاً على ما سبق في قصة إبراهيم.

 ولهذا لمَّا أخبر اللهُ موسى أنَّه قد فَتَن قومَه وأنَّ السامريَّ أضلَّهم، لم يحصل له من الغضب وإلقاء الألواح ما حصل له عند مشاهدة ذلك. لذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ‌لَيْسَ ‌الْمخبر ‌كالمعاين.

قال الراغب”(ت ٥٠٢هـ) “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين” :” وأما علم اليقين فللخاصة. وأما عين اليقين ففي الدنيا للأنبياء ولبعض الصديقين. وإلى نحوه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ” تنام عيني ولا ينام قلبي ” وبقوله: ” إني أرى من خلفي كما أرى من قدامي “. قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: لو كشف الغطاءُ ما ازددت يقيناً. وقال بعض الحكماء: علم اليقين يحصل للعقل بالفكر والذكر فإن العقل بفكره أي ببحثه يدرك المعارف وبذكره يستحضرها إذا نسيها وغفل واشتغل عنها، وبذهنه ينظر إليها دائماً كما ننظر نحن إلى محسوس غير غائب عن أبصارنا بلا حاجة إلى بحث وطلب وتفكر وتذكر”.

وفي صحيح البخاري: ” عَنْ ‌أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى ‌الْمَرْأَةِ ‌مِنْ ‌غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ. فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا».

وقد يختلف التعبير عن الفزع عند النساء.

جاء في العود الهندي:” أنَّ فزعاً أدركَ نساءً ثلاثاً، فوضعت إحداهُنَّ يدها على ثديها، والأخرى على بطنها، والثالثة على رَكَبها،-ما انحدر عَنِ البَطْنِ- فقال بعضُ أهل الفِراسَة: أما الأولى: فمرضعٌ، وأما الثانية: فحُبلى، وأما الثالثة: فبكرٌ. فكان كما قال.

حدث أحدهم فقال:” خرجت حاجًا، فمررت بحي؛ فرأيت جارية كأنها فلقة قمر ‌فغطت ‌وجهها، فقلت يرحمك الله أنا سفر وفينا أجر، فمتعينا برؤية وجهك فقالت:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا

 لقلبك يومًا أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كلّه أنت قادر

عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وروي أن فاطمة بنت الحسن – رضوان الله عليه – نظرت إلى دار زوجها الحسن بن الحسين – رضي الله عنهما – ‌فغطت ‌وجهها وقالت:

‌وَكَانُوا ‌رَجَاءً ‌ثُمَّ أَضْحَوْا رَزِيَّةً

لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتِ

 ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لفقد حسين والبلاد اقشعرّت

وقد أعولت تبكى السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وصلّت

قال الدكتور شوقي ضيف:” ولم يكونوا يرثونه ويبكونه فقط، إذ كان كثير منهم يضيف إلى رثائه وبكائه تحريضا على الأخذ بثأره وثأر من دافعوا عنه من رفاقه، وهو تحريضٌ يتحول إلى رغبة شديدة فى سفك الدماء، حتى يغسل جماعته عنهم عار القعود عن نصرته. ويتحول ذلك عند طائفة منهم إلى ما يمكن أن نسميه غريزة الدم المسفوح”.

ومن بديع تشبيه الأدِيْب أبي الثَّنَاء حَمَّاد بن هِبَةِ اللّه:

لمَّا بَدَتْ في ثيِابٍ مِن مَلَابِسِها

خَفيْفَةِ النَّسْجِ لا يَعْبا بِها النَّظَرْ

خَافَتْ عُيُونًا ‌فغَطَّتْ ‌وَجْهَهَا خَجَلًا

بكُمِّها وعَلَاها الدَّلُّ، والخَفَرْ

فَخِلْتُ أثْوَابَهَا اللَّاتي بها اسْتَتَرَتْ

غَيْمًا يلُوحُ لنا مِن دُونِهِ القَمَرْ

قال النابغة الذبياني:

‌سقَطَ ‌النَصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ

فتَناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا باليَدِ

بِمُخَضَّبٍ رَخْصٍ كأن بَنانَهُ

عَنَمٌ على أغصانهِ لم يُعْقَدِ

النَّصيف: ثوبٌ تتجلّل بِهِ المرأَة فَوق ثِيَابهَا كلِّها؛ سُمِّي نصيفاً لِأَنَّهُ نصَف بَين النَّاس وَبَينهَا فحجز أَبْصَارهم عَنْهَا.

والعَنم: نبت أحمر يصبغ به، وهو أول من افترع هذا المعنى، فأخذه أبو حية النميري فأحسن كل الإحسان:

‌فألقتُ ‌قِناعاً ‌دونهُ الشُمسُ واتقتُ

بأحسَنِ مِوصُولَيِن: كفٍ ومعِصَمِ

قال أبو علي الحاتمي “الرسالة الموضحة” (ت ٣٨٨هـ) :” فوجبت له المساواة بهذه الزيادة، ولم يعط الفضل على النابغة لتقدم النابغة في الاختراع لهذا المعنى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. الان انتهيت من قراءة المقال فور صدوره، تبارك الله، زادك الله علما دكتورنا الحبيب

  2. ما شاء الله لا قوة إلا بالله عنكم يا دكتور أحمد، دائما تمتعنا بمقالات قصيرة غزيرة مثيرة، نفع الله بكم وأطال عمركم وزادكم من علمه لتعطينا … أخوكم من فلسطين أبو فؤاد

  3. جزاك الله كل الخير على هذه المعلومات وهذه السعة في اللغة والبلاغة وغزل المتنبي الذي قل جدا قياسا بفروسيته وحكمته وشكرا لك على شرحك الواضح البين الشفاف وانت موسوعة في اللغة ولك معرفة ممتازة في النقد وهكذا يكون .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولما تقدمه لنا من معارف واسعة .تحياتي .مهند الشريف

  4. جزاك الله خيراا دكتور ونفع بك الأمة ؛
    كالعادة مقال جميل، ملم بكم من المعلومات ،
    سلمت وسلمت يمناك 🙂

  5. لم يكن تبيان الألفاظ و المعاني سلساً في عصرنا الحديث الاّ من بعض الأُدباءِ الذين خطّوا بأقلامهم انسيابية الجداول لتصل إلى اعماق عقولنا و قلوبنا.. الدكتور الزبيدي حافظ على قوة الكلمة بل و أعطاها زخماً بعد أن حلل طلاسمها ليكون لها وقعُ السِحر على آذاننا.. وما زال يزيدنا شوقاً لِما هو آت..!
    أشكرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى