مقالات

تأملات (١٨) د. داود سليمان – النمسا

د. داود سليمان

مواصلة التأملات في توجيهات الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة وإرشاداتها – فيما يتعلق بالآيات المتضمنة لعبارة “يَتَوَفَّاكُم”.
في الحلقة السابقة من هذه التأملات عرضنا ما استشرفناه من توجيهات وإرشادات علمية موضوعية تضمنتها الآية الكريمة: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزُّمر: ٤٢)”. لقد تفاعل الأخوة القراء المهتمين والمتابعين لما نعرضه من تأملات في توجيهات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وإرشاداتها، ما كان له الأثر المشجع على مواصلة عرض هذه التأملات.
أحد الأصدقاء، بعدما تأمل في ما عرضناه في الحلقة السابقة من فهمنا لتوجيهات الآية الكريمة (الزُّمر: ٤٢)، وإرشاداتها، حاورني  لمعرفة ما أستشرفه من توجيهات الآية الكريمة: “وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (الأنعام: ٦٠)”، وإرشاداتها. وقد بدأ ذلك الصديق الحوار بالتساؤل عن طريقة كتابة الآية؛ إذ قال: لماذا جاءت كتابة الآية الكريمة على النحو التالي:-
* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى؛
** ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
فهل التَّوَفي “الذي تشير إليه عبارة: “وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ”، يعني الموت (الذي يحدث للمرء بمغادرة روحه لجسده)، وإذا جاز ذلك، فهل يقتصر موت المرء على حالة الليل؟ أم أن “يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ” تعني أن المرء إذا نام (أثناء الليل أو في النهار)، فإنه يكون قد استوفى ما له من الأعمال والتصرفات الحميدة التي تكتب له بها حسنات، وكذلك استوفى ما عليه من الأعمال والتصرفات السيئة التي تكتب عليه بها السيئات. لا شك في أن كتابة الآية بهذه الكيفية لها دلالتها التي يجب أخذها بالاعتبار لاستشراف توجيهات الآية وإرشاداتها. فالفقرة الأولى من الآية يمكن فهم توجيهاتها وإرشاداتها على النحو التالي: إن الله سبحانه وتعالى يوجه بني البشر إلى أن المرء عادة ما يلجأ للراحة من عناء كده وتعبه أثناء النهار بنومه في الليل: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (يونس: ٦٧)”؛ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (النبأ: ٩)؛ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (النبأ: ١١)، على أن ذلك لا ينفي أن هناك من بني البشر من يعمل ويجد ويجتهد في طلب الرزق أثناء الليل؛ ولكن الأفضل أن يكون العمل لطلب الرزق أثناء النهار، وأن فترة الراحة أثناء الليل، أي في وقت الظلمة. ثم أردف صديقي متسائلاً:-
١- ما الذي يستشرفه المرء من عبارة: “وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ” في هذه الآية؟! فهل “يَتَوَفَّاكُم” في هذه العبارة جاءت بمعنى يُميتكم؟
وبالتالي، إذا اعتبرنا أن ما تشير إليه وترشد به لفظة “يَتَوَفَّاكُم” في
الآية بمعنى “يُميتَكُم”، أي بمعنى مفارقة روح المرء لجسده، فهل يقتصر زمن وفاة المرء (موته) على أن يكون (أو يأتي، أو يحدث) فقط بالليل (أي أثناء الليل)؟! ألا يموت المرء في وقت النهار؟
لا شك في أن الموت يأتي للمرء في كل الأوقات “وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المنافقون: ١١)؛ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (الأعراف: ٣٤)؛ ثم واصل صديقي تساؤله قائلاً: ألا يقترف، أو يأتِ المرء بأعمال وتصرفات حميدة أو سيئة أثناء الليل، يعلمها الله؟!
للوهلة الأولى قد يرى المرء في هذه الآية بعض الإشكال، ما يؤدي به لطرح مثل هذه الأسئلة (ألا يأت الموت للمرء أثناء النهار؟! ألا يعمل/ يسعى المرء في طلب الرزق أثناء الليل؟؟).
إذا ما تدبر المرء توجيهات هذه الفقرة من الآية الكريمة وإرشاداتها برَويَّة، سيجد أن عبارة “يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ” لا تعني يميتكم بالليل، ولكنها بلا أدنى شك قد جاءت بمعنى يستوفي لكم أعمالكم أثناء نومكم، حيث يكون المرء في حالة عدم المقدرة على الإتيان بأية أعمال صالحة تُكتب له، أو غير صالحة تُكتب عليه (سواء أكان ذلك في وقت/أثناء الليل، أو النهار: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (يونس: ٦٧)”؛ فقد جعل الله، خالق كل شيء، وقت الليل مظلمًاً لينعم المرء بالراحة من عناء العمل أثناء النهار ؛ ولو أن بني البشر التزموا بهذا التوجيه الإلهي لصلحت معيشتهم.
والسؤال الآن: ألا يلجأ المرء للنوم أثناء النهار؟! والجواب هو: بَلا؛ وألا يموت المرء أثناء النهار؟! وكذلك الجواب هو: بلا؛ فَرُسُل الموت تأتي  للعباد في كافة الأوقات، “ليلاً أو نهاراً”: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ  حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (الأنعام: ٦١)؛ أما استيفاء الأعمال والتصرفات، وبالتالي انقطاع المرء عن الإتيان بأية أعمال أو تصرفات إضافية فذلك يحدث في إحدى حالتين، هما:-
* حالة الوفاة، بمعنى انقضاء الأجل (حالة الموت)، حيث تكون روح المرء قد غادرت جسده: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (النحل: ٧٠)؛ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
(السجدة: ١١)؛ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (الأنعام: ٦١)؛
** حالة النوم، حيث يكون المرء حياً، لأن روحه لم تغادر جسده، ولكنه في حالة عدم المقدرة على الإتيان بأية أعمال أو تصرفات كالتي يأت بها أثناء صحوه (ليلاً أو نهاراً): وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (الأنعام: ٦٠)؛ ٱللَّهُ یَتَوَفَّى  ٱلۡأَنفُسَ حِینَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِی لَمۡ تَمُتۡ فِی مَنَامِهَاۖ فَیُمۡسِكُ ٱلَّتِی قَضَىٰ عَلَیۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَیُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ (الزُّمر: ٤٢)؛ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (آل عمران: ٢٥)؛
٢ – لماذا جاءت عبارة: “وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى” معطوفة على ما قبلها؟ برأينا أن مجيء هذه الفقرة على النحو المذكور يؤكد على أن الفقرة السابقة لها من الآية تعزز الاعتقاد بأن عبارة “وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ” تشير إلى ما ذكرناه من أن لفظة “يَتَوَفَّاكُم” قد جاءت بمعنى الاستيفاء، وليس بمعنى الموت.
يرجى من الأخوة المتابعين التعليق بما يرونه لإثراء الحوار. وللحديث بقية بإذن الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى