
د. أحمد اتلزبيدي
قال أبو الطيب المتنبي في رواية ابن جني عنه، (قَشْر الفَسْر 1/120) :
لهَ أيادٍ إليَّ سابقةٌ
أُعَدُّ منها ولا أُعدِّدُها
وفي رواية العكبري (لهَ أيادٍ عليَّ…)، وفي رواية أخرى “سابغةٌ”؛ أي تامة، والأيادي: النعم.
يقول: “إن له علينا نعماً سابقة، أُعَدُّ منها ولا أقدر أن أحصيها من كثرتها، وقوله “أعد” فيروى بفتح الهمزة “أَعُدُّ”، وهو من قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. قال البغوي: أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ، لَا تُحْصُوها، أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا، وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا” .
قال الراغب:”فأمرهم أن يعدوا بعض أفعاله في الشكر له، وشكره سبحانه أصعب عبادة وأشرفها”.،
وأضاف الراغب: “غاية شكر الله الاعتراف بالعجز عنه، فكل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله، فإن شكرها نعمه منه، فذلك بتوفيقه، فإن العبد محتاج أن يشكر نعمته الثانية كشكره للأولى، وهدا يؤدي إلى مالا يتناهى”.
وفي كلامه السابق شرح لكلام الإمام الشافعي، قال: “الحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نعمه الا بنعمة منه توجب مؤدي ماض نعمه بأدائها نعمةً حادثةً يجب عليه شكره بها”.
وفي معنى بيت المتنبي قول الحمار:
لا تَنْتُفَنّى بعدما رِشْتَني
فإننيْ بَعْضُ أَيَادِيكاَ
غير أن كلام أبي الطيب أجزل وأجمل.
قال الخليل بن أحمد :” النَّتْفُ: نَزْعُ الشَّعْر والريش وما أَشْبَهَها، والنُّتافةُ ما انتُتِفَ من ذلك”. وفي الجمهرة:” النتف: النتس”
وأصل بِنَاء التنوفة وَهِي القفر من الأَرْض وَالْجمع التنائف.
وراشه: نفعه وأصلح حاله.
وقرأتُ فِي بعض الكتب أَن مُصعب بن الزبير، أَخذ رجلًا من أَصْحَاب الْمُخْتَار بن أبي عبيد، فَأمر يضْرب عُنُقه. فَقَالَ: “أَيهَا الْأَمِير، مَا أقبح بك أَن أقوم يَوْم الْقِيَامَة إِلَى صُورَتك هَذِه الْحَسَنَة، ووجهك هَذَا الْجَمِيل الَّذِي يستضاء بِهِ، فأتعلق بك، ثمَّ أَقُول: يَا رب، سَلْ مُصعبًا فيمَ قتلني؟ فَقَالَ لَهُ مُصعب: قد عَفَوْتُ عَنْك. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير اجْعَل مَا وهبت لي من حَياتِي فِي خفض عَيْش، فَإِنَّهُ لَا عَيْش لفقير. فَقَالَ: ردوا عَلَيْهِ عطاءه، وَأَعْطوهُ مائَة ألف دِرْهَم.”
وفي كتاب “مكارم الأخلاق” للخرائطي:” أَهْدَرَ الْمَهْدِيُّ دَمَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ يَسْعَى فِي فَسَادِ الدَّوْلَةِ، وَبَذَلَ لِمَنْ دَلَّ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاسْتَخْفَى الرَّجُلُ حِينًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ، فَكَانَ كَالْمُسْتَخْفِي، فَإِنَّهُ لَفِي بَعْضِ طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ، إِذْ بَصُرَ بِهِ رَجُلٌ قَدْ كَانَ عَرَفَ حَالَهُ، فَأَهْوَى إِلَى مَجَامِعِ ثَوْبِهِ، وَصَاحَ: هَذَا فُلَانٌ، طِلْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَبَيْنَمَا الرَّجُلُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، إِذْ سَمِعَ وَقْعَ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ، فَالْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِمَوْكِبٍ كَثِيرِ الْغَاشِيَةِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ قَالَ: وَمَا يُكَنَّى؟ قَالُوا: يُكَنَّى بِأَبِي الْوَلِيدِ فَلَمَّا حَاذَاهُ قَالَ: “يَا أَبَا الْوَلِيدِ، خَائِفٌ فَأَجِرْهُ، وَمَيِّتٌ فَأَحْيِهِ؛ فَوَقَفَ مَعْنٌ فِي مَوْكِبِهِ، وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: هَذَا طِلْبَهُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ جَعَلَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالَ: فَأَعْلِمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ وَقَالَ لِبَعْضِ غِلْمَانِهِ: انْزِلْ عَنْ دَابَّتِكَ، وَأَرْكِبْ أَخَانَا فَرَكِبَ، وَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَمَضَى الرَّجُلُ إِلَى بَابِ الْمَهْدِيِّ، فَإِذَا سَلَّامٌ الْأَبْرَشُ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَدَخَلَ سَلَّامٌ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يُحْضِرْهُ مَعْنٌ فَجَاءَتْهُ الرُّسُلُ، فَرَكِبَ، وَأَوْصَى بِهِ حَاشِيَتَهُ وَمَنْ بِبَابِهِ مِنْ مَوَالِيهِ، وَقَالَ: لَا يُخْلَصُ إِلَيْهِ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، فَإِنْ رَامَهُ أَحَدٌ فَمُوتُوا دُونَهُ وَدَخَلَ مَعْنٌ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا مَعْنُ، وَتُجِيرُ عَلَيَّ أَيْضًا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَنَعَمْ أَيْضًا؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَتَلْتُ فِي طَاعَتِكُمْ وَعَنْ دَوْلَتِكُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُجَارُ لِي رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْتَجَارَ بِي؟ فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الرَّجُلَ ضَعِيفُ الْحَالِ قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ: إِنَّ جِنَايَتَهُ عَظِيمَةٌ، وَصِلَاتُ الْخُلَفَاءِ عَلَى حَسَبِ جِنَايَاتِ الرَّعِيَّةِ قَالَ: قَدْ أَمَرَنَا لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالَ: أَهْنَأُ الْمَعْرُوفِ أَعْجَلُهُ قَالَ: يَتَقَدَّمُهُ مَا أَمَرْنَا لَهُ بِهِ فَانْصَرَفَ مَعْنٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْمَالُ، فَأَحْضَرَ الرَّجُلَ، وَقَالَ لَهُ: ادْعُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَدْ حَقَنَ دَمَكَ، وَأَجْزَلَ صِلَتَكَ، وَأَصْلِحْ نِيَّتَكَ فِي مَا يُسْتَقْبَلُ “.
وقد تفنن المتنبي في هذا المعنى في شعره، فقال:
ما زلت تتبع ما تولى يداً بيدٍ
حتى ظننت حياتي من أياديكا
يقول: لم تزل نعمك تتوالى حتى كثرت عندي فظننت أن حياتي من جملتها، وقال:
وَفِي جود كفك مَا جدت لي بنفسي وَلَو كنت أَشْقَى ثَمُود
وقال:
فاغْفِرْ فِدىً لَكَ واحْبُني مِنْ بَعْدِها
لتَخُصَّني بِعَطيَّةٍ مِنْها أنا
يقول: “اغفر ذنبي بعفوك عن التخلف عنك، وعلى التقصير الذي كان مني في حال البعد عنك، ثم صلني بعد المغفرة بصلة، لأكون مخصوصاً بها، وأحبني في جملة من تحبه”.
زر الذهاب إلى الأعلى