مقالات

“حيوات بنكهة الرمان” مجموعة علي الشعالي منمنات قصصية بمذاق مختلف

لغة تضفي على السرد سمة أسلوبية مبهرة

علي الشعالي

 قراءة نقدية: كنانة عيسى    –    الإمارات

هناك ذوق أسلوبي تغريبي، يحيط بالمجموعةالقصصية للكاتب الإماراتي المميز علي الشعالي “حيوات بنكهة الرمان”. إنها مجموعة شمولية إنسانية ذات تبئير حضاري خاص، من خلالها نتصل بهالة كاتب حقيقي أخفى ملامح مثقف كبير يكتب أدبًا رشيق الحضور، متعالي الثيمة، متجددًا في خلق بيئات السرد وموضوعاتها المتنوعة بين أدب واقعي ناقد، و رؤية “ديستوبيا” معاصرة تعكس مخاوف طازجة متجذرة في وعي جمعي، ولكن ضمن قولبة مختلفة فريدة. وكل ذلك في نمذجة قصصية كلاسيكية الإطار بعناصرها وطبيعة سردها لتتشابك بدلالة العنوان “إنثروبولوجيا”، وتقدم فضاءً تخيليًا قانيًا مهد له الغلاف الجاذب، فانبثقت منه علامات ترقيم لحكايات بسيطة في الظاهر وعميقة المعنى والاتجاه في الباطن. ضمن غائية توثق التجربة الإنسانية في فواصل ونقاط وعلامات نحو، راودت فهم القارىء الداخلي عن آيديولوجيته من خلال قوة الرمز
فنر على سبيل المثال، قصة “مظلات”، و قصة “عاملة الفندق”         و “الاشجار لا تتحرك” حين يعلو صوت المرأة الداخلي في لحظة التجلي والحقيقة ومرارة الواقع، ونجد في قصة “كافيين” فكرة التذوت الداخلي وصلته بالآخر ونسخة الحقيقة التي تتفاوت من شخص لأخر ، اما في قصتي “كازينو” و “سيران” فنتواجه مع “ديستوبيا” سوداوية ثيمتها خيال علمي مرعب يبدو وشيكًا، يهدد بنهايات العالم المتأزم في سعاره المحموم نحو التسلح بقوة التكنولوجيا والتهافت على التمدن، والتنافس في فناء العالم بمصادره الطبيعية وموارده أمام جشع الإنسان وغبائه، بينما تواجهنا قصة مثل “طنين”، كحكائية فلسفية و وجودية متقنة، تخلق هامش الصدمة، وتثير القلق من سطوة الفقد وعمق تاثيره في العقل الباطن للطفولة البعيدة. بينما نجد في قصة”برياني” تداع ذاتي لملامح شخصية خاصة ناجحة مشرقة بندبها تستمر في النجاة رغم الفقد وخيبات الحروب، الأوطان المنقسمة المتشظيه المهزومة، وفي قصة “أرق” نجد الحكائية الذاتية السريالية الناقدة للرأسمالية الجديدة والمجتمع المعدني المؤتمت بعيدًا عن بدائية الحياة البشرية بجمالها الروحاني، بينما نجد في قصة “الاشجار لا تتحرك” إعادة تشكيل لصوت الضياع الداخلي وبمذاق سريالي اتشح بالغموض وفكرة التحديق والاتصال بالآخر والغنى المعرفي الأشبه بأدب الرحلات لنجد في قصة “باربرا” صوت المؤلف الخفي يلتقي بصوت السارد ضمن حبكة شيقة بمهارة النهايات المفتوحة الدالة، وقصة “البقال” التي تعكس تصورًا استثنائيًا للفئة المهمشة العابرة في حيواتنا ودورها الخفي في ضبط الواقع.

أنساق دفق ثقافي مضمرة

قدم الكاتب علي الشعالي نظرة موازية للمألوف الواقعي بلغة جزلة مسبوكة متقنة تعكس سمات راويها، لكن التجديد تمظهر في استبصار أنساق ثقافية مضمرة في سياقات لا تتكرر، تطلق محاكمة داخلية على ظاهرة الأنا المتضمة المتعجرفة، ومشكلات تضخم المجتمع الاستهلاكي وصراعاتها الطبقية، ومعاناة العالٍم التغريبية انتماء وفكرًا، والتشبث بالمظاهر السطحية على حساب المعايير الأخلاقية، وشظف العيش وقسوته حتى بالنسبة لخريجي الجامعات في بعض المجتمعات العربية،و البناء النفسي المهزوم والمتشظ للناجين من الحروب والمغتربين الباحثين عن الحياة، وتأكيد الذات والبحث عن ماهية الوجود والتكنولوجيا كترميز فكرة “الفاسيف” على سبيل المثال، بينما قدم لنا المؤلف نمذجة جديدة لاستدامة التراث الإمارتي جغرافيا وحضاريا كجزء من أدب الرحلات القصصي الذي وثق جغرافية دولة الإمارات العربية المتحدة بعيون قاطنيها بعشق وأصالة، والذي يعد استحداثاً يستحق الدراسة وإعادة إنتاج الرؤية.

فضاءات اللغة

رغم ان هناك مواضع في السرد ظهرت فيها اللغة إخبارية تقريرية مباشرة وموسوعية، إلا أن لغة كل حياة في هذه المجموعة استطاعت بشكل عام أن تتمثل اللغة المثيرة المسبوكة بتمرد على الهزالة الدارجة، فيُظهِر معجم الكاتب اللغوي المنمَق، اهتمامه بأسلبة اللغة وقولبتها باختلاف الحكاية. وينبثق المجاز الضمني الذي وائم المتن في بنائه خلال سياقات وجودية فلسفية ليمتع قارئه بسلاسة السهل الممتنع الوافر والمغاير للعادي في كل عناصره. إنها لغة التفاصيل المحاكة بتأن، الناضحة بشعرية خفية و تأملية ومتعالية، قيمية المعنى، لكنها لا تسلب السرد لغة خطابه المستخدمة بل تضفي عليه سمة أسلوبية مبهرة ترتبط باسم لغة الكاتب دائمًا.

“حيوات بنكهة الرمان” هي دعوة خجولة ليقظة داخلية، لوعي مغيب آن له ان يستيقظ سواء كان حلوًا او حامضُا أو لاذعًا. جموح تخيلي أصيل في أفكاره، بديع في لغته، متمايز في ملامح شخوصه المتوحدة بتكوينها، وثيماتها المبتكره وموضوعاته الفلسفية العميقة، ارتطم بوعينا عبر قصص ستعيد بناء نفسها كروايات مصغرة عن جوهر الحياة خارج إطار الزمكان خالقًا لنسخته الخاصة من الإبداع الماتع الذي لا ينسى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى