إن عوالم جمال الخطيب القصصية كما عودنا… فريدة رغم التصاقها بالواقع، استثنائية رغم التفافها حول الثيمة المألوفة، وعنيدة الحضور سرديا في مراوغة مهيبة تستقي مشاكستها من عنونة ضبابية تتجاوز المعروف وشخصيات غامضة شديدة الوضوح تتقاطع مع وعي جمعي، وسياقات ملتبسة متعالقة تثير الارتباك و انحرافات معرفية متجددة ومغايرة ومتمايزة تطلق الأسئلة فلا تجيب عنها. ينتصر النص الأدبي حين يتشابك مع قارئه، فيجبره على إعادة القراءة ثم الغرق.. فلا نسخ ولا تناسخ ولا اقتباس ولا تناص، ولا محاكاة ولا استرجاع بل عالم واقعي سريالي غرائبي السياق وجداني الوقع شاعري اللغة محلق الثيمة، يتبادل فيها الشهداء الثلاثة قص حكاياتهم و وجهات نظرهم ووجودهم البرزخي بعيد الشهادة في أسلبة غامضة مرواغة أرادها الكاتب ان تكون مضللة لقارىء سيتوه ولا ريب في السرد حتى يصل الحقيقة في سردية مشهدية يقصها لنا أبطال ثلاثة جمعتهم الشهادة وفرقتهم هوياتهم المجهولة بالنسبة لنا.
تعدد الرواة وملامح ما بعد الحداثة
ان تقنية تعدد الرواة هي عبء إبداعي يكسر به كتّاب ما بعد الحداثة المتمكنون النمط السردي المألوف ، من تسلسل للأحداث ، ووضوح للثيمة ومباشرتها في أحيان كثيرة، وتفرد شخصية السارد الأوحد، وظهور التغريب والهدم والعبث والتشظي و ضبابية الفضاء السردي الذي قد يهمش الموضوعة أو يلغي تسلسل حبكة متوقعة، أو يحيد بالنص نحو رفض شامل من كل النسق الممكنة. إنها مخاتلة ابداعية تثير الغرابة والذهول وتدعو القارىء على اختلاف هويته القر ائية لرفض مسبق يدعوه للتفكير واعادة القراءة. إنها أحجية يكمل أبطالها الثلاثة عملية اكمال المعنى المتدفق في مشاهد منفصلة، لكن الغريب والطازج في هذه التجربة القصصية، هو قدرة كل قارىء على نسج اجزاء الأحجية.. المتداخلة في غياب أسماء شخصياتها، وملامحهم النفسية ودورهم الوظيفي في السرد، انه تناسخ واسترسال في دفق المعنى، القصدية في نفي المعقولية، واعادة النظر في ترويض افكار تختلف عن المسلمات.ارباك متقصد لاستخدام ضمائر شائعة، تجبر المتلقي على خوض السياقات بحذر،إنها الحكاية ذاتها متوالدة من صدى الإحالة لثيمة الشهادة المقدسة وخلودها. إنه تشتت غائي لنفي المعقول وخلق الهاجس ونسيان عالم المألوف حسب مصطلحية هادجر الى سارتر.
السارد المخاطِب لزوجته/ الزوج
يبدأ الحوار غالبا تحت اصرار الكاتب بخلق هامش لتوريط القارىء في المشهد، إنه دعوة واعية لاستبدال الشخصية المخاطبة بجمهور التلقي، كإعداد للجو الملحمي للقصائد البطولية الذي يذكرنا بحوارات البحث عن الخلود وتساؤلات الوجود الكبيرة المستعصية على الفهم، وأسطرة المعقول،. وتجسيد الحقيقي في رؤية اللاممكن والمعقول والمستحيل واللامرئي.البطل الذي ما زال على قيد الحياة يخبرنا وزوجته ما حدث، يختبرنا في تقبل ظروف الشهادة وسرياليتها، ففي المرة الأولى يخبرنا عن ظروف وفاة أخ الزوجة، عن هلامية الزمن المحيط بطقوس الموت، وعن حضوره السريالي بعد الموت في مد يد العون للزوج الجريح الذي فقد بوصلته تحت وطأة الإصابة الجسدية الخطيرة، فانار له طريق العودة اللزج الغامض، ليعود مجددًا في الزمن ويخبر القارىء عن بداية الحكاية، حين يأتي الشهيد البطل ويسأله عن البندقية، إنه عازم على المقاومة التي ستنتهي باستشهاده وكما ورد في النص:
“ثم عاد في الليلة التالية، قال: أين بندقيتك، أخذها ولم يبتعد كثيرًا.”
الساردة المخاطِبة لزوجها الأخت/الزوجة
تتغير لغة الخطاب الرتيبة الجنائزية قليلًا حين تصدر عن الساردة الأنثى( الزوجة) و(الأخت) مخاطبة زوجها فتغدو اكثر رقة وترددًا وشعرية ، إنها تشاركنا غرائبية الحضور الشبحي الرمزي للأخ الشهيد وهو يمد يد العون للزوج المصاب، ثم لا تلبث ان تتابع سردية استشهادها هي الأخرى بإيقاع ثابت، أراده الكاتب أن يكون بهذا الانتظام الوجداني المتخيل المثير للارتباك، فالكل شهداء، والكل مقاومون، والكل أحياء متجذرون في الأرض المقدسة بعد الموت، الشخوص الثلاثة هادئون متقبلون لانسيابية الموت، للسكينة التي يجلبها. إنها الهشاشة والعذوبة والسكون وشفافية الانتقال إلى عوالم العدالة والجمال والسلام حيث لا خوف من زنانة ولا فوهة بندقية ولا انفجار القنابل.
السارد الأخ المخاطِب لأخته الشهيد الأول
ثم يات دور الحكاية الأولى على لسان الشاهد اللصيق بالحدث المتشظي الذائب في سريالية المشهد، الزمن هلامي بامتياز، غض ولين وبلا حدود أو ملامح أو بدايات ونهايات، لكنه يعْلم جمهور التلقي ببداية الحكاية ونهايتها، فالعرس المتقشف الحزين في ظروف الحرب القاهرة، المعاناة الضارية القاسية لشعب لا يملك خيار الحياة بل المقاومة والنضال في زهد لشظف عيش ضيق، ثم المشهد البرزخي النهائي الذي يتعاقب عليه الصديقان الميتان في حمل التي وجه الخطاب إليها كرمز للخصوبة الأنوثة والأرض ، لغة الخطاب الرتيبة المباشرة ذاتها، الايقاع الداخلي لفضاء السرد الغامض الضبابي، الحدث المتماه في علاقات سردية متعدية تتقافز من شخصية لأخرى، غرائبية مشبعة بعناصر الأدب القوطي.
إنها النهاية التي يستقر فيها الثلاثة على الأرض ذاتها، حيث ندف الثلج هي رمز الطهارة ويقظة الخلود ووراثة الأرض المقدسة لمن دافع عنها، إنها باقية لأرواح من رحلوا، ولأرواح القادمين.إن “ندف الثلج” في وقتنا المعاصر هي معادل موضوعي للسلام القادم، إنها وراثة جديدة لأرواح من أودعوا رميمهم في باطن الأرض السليبة دفاعًا عنها، مقاربة منافية للمنطق والعرف وقوانين الطبيعة، رمزيتها تخرج من حكاية قديمة مجيدة لن تموت.