مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم  (8) د أحمد الزبيدي    –     الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله – : ” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).

قصَّة ‌مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام

‌ذكر الله سبحانه قصَّة ‌مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام في القرآن، وورد ذكرها في الصحيحين، فلا نطيل بذكرها، وفي صحيح البخاري،(3402) عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا ‌سُمِّيَ ‌الْخَضِرَ”؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضِرًا. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ‌سُمِّيَ ‌الْخَضِرُ خَضِرًا; لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ.

قال الحافظ ابن كثير:” هَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي ” الصَّحِيحِ “، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِهِمَا، فَمَا ثَبَتَ فِي ” الصَّحِيحِ ” أَوْلَى وَأَقْوَى، بَلْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا عَدَاهُ. يقصد حديث “البخاري”.

و قال أبو بكر الأنباري:” والعرب تسمي الحسنَ، المشرقَ، المقتبلَ: خَضِراً، تشبيهاً بالنبات الأخضر الغض. قال الله تبارك وتعالى: {فأخرجنا منه خَضِراً}. ويقال: قد اختضر الرجل: إذا مات شاباً، لأنه يؤخذ في وقت، الحسن والاشراق. قال بعض الرواة: كان شيخ من العرب قد أولع به شاب من الحي يقول له: قد أجزَزْتَ يا أبا فلان. يريد: قد حان لك أن تُجزَز، أي: تموت، فكان يقول له الشيخ: يا ابن أخي، وتختضرون، أي: تموتون شباباً.

وفي “إكمال المعلم” (7/ 378):”قال بعض العلماء: وفى ‌قصة ‌موسى ‌والخضر أصل من أصول الشريعة عظيم، في أنه لا حجة للعقول عليها، وأن لله أسرار فيها يطلع على بعضها، ويخفى ما شاء منها، وحكماً هو أعلم بمراده بها، فلا يجب الاعتراض بالعقول على ما لا يفهم منها، ولا ردها كما فعل أهل البدع؛ بل يجب التسليم لما صح وثبت من ذلك”.

وقال الحافظ ابن حجر- الفتح (1/220) :” وفيها مِنَ الْفَوَائِدِ؛ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ؛ مِمَّا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا مُعَارَضَةَ لِأَحْكَامِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ، فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِأَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ قَاصِرٌ”.

وقال الإمام الغزالي:” وفيها:” تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ السُّؤَالِ قَبْلَ أَوَانِ اسْتِحْقَاقِهِ إِذْ قَالَ {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ منه ذكراً).

 وَاسْتَدَلَّ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ مِنَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ‌قِصَّةِ ‌مُوسَى ‌وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً) {الكهف: 77)

قال الإمام الرازي: “وَاحْتَجَّ الطاعنون فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جهات: الأولى: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ؛ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ نبيًا.

 ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) فَإِنْ صَدَقَ مُوسَى فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَإِنْ كَذَبَ دَلَّ عَلَى صُدُورِ الْكَذِبِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ الْأَمْرَ الْخَارِجَ عَنِ الْعَادَةِ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ قَبِيحًا، بَلْ لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى وَجْهِهِ وَسَبَبِهِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ؛ إِنَّهُ إِمْرٌ، يُقَالُ أَمِرَ الْأَمْرُ إِذَا عَظُمَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

قَدْ لَقِيَ الأقْرَانُ مِنِّي نُكْرًا

‌دَاهِيَةٌ ‌دَهْياءَ إدَّا إمرًا

 الثَّانِية: أَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ. وَجَرَتِ الْعُهُودُ الْمُؤَكِّدَةُ لِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَالَفَ تِلْكَ الْعُهُودَ وَذَلِكَ ذَنْبٌ، والجواب: أَنَّهُ فَعَلَ ذلك نسياناً، ثُمَّ حَكَى الله تَعَالَى عَنْ الخضر أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشَّرْطَ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فَعِنْدَهاَ اعْتَذَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى النَّاسِي بِشَيْءٍ، ثم قال: (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) يَعْنِي: وَلَا تُعَسِّرْ عَلَيَّ مُتَابَعَتَكَ، وَيَسِّرْهَا عَلَيَّ؛ بِالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ المناقشة، وقرئ: عُسْراً بضمتين.

قال تعالى: {‌أما ‌السفينة ‌فكانت ‌لمساكين}، والسفينة مالٌ كثير، فكيف يسمي مالكها مسكين؟

وقوله تعالى: {وكان ‌وراءهم ‌ملك}، ومن كان وراءهم فقد سلموا منه، وإنما كان خوفهم مما كان قدامهم!

وقوله تعالى: {‌فخشينا ‌أن ‌يرهقهما طغيانا وكفرا}، فكيف استباح دم الغلام لأجل الخشية، مع ان الخشية لا تقتضي علما ولا يقينا؟، أما قوله: {‌أما ‌السفينة ‌فكانت ‌لمساكين}، يحتمل أنها كانت ملكًا لقوم، فلعل كل واحد منهم كان قليل المال جدًا، وأما قوله تعالى: {وكان ‌وراءهم ‌ملك}، فكلمة وراء يعبر بها عن الجهتين معا، قال تعالى يقول: {‌من ‌ورائهم ‌جهنم} [الجاثية: 10] وهي بين أيديهم، وأما قوله تعالى: {‌فخشينا ‌أن ‌يرهقهما طغيانا وكفرا}، فلعل الله أوحى إليه بقتل الغلام فلذلك أقدم عليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي دكتور احمد الزبيدي وان التفكر بايات الله شيء عظيم وفيه اجر كبير وانت تدعونا للتامل واجهاد العقل في سور القران وايات الله وحكمته وان الله خص قصص القران ليعلم الناس ومن ورائه الخير الكثير وان الله يعمل حكمته وبلاغته وغيبه الذي لا يضطلع عليه احد في وقوع قدره وقضائه في الانسان والمخلوقات وليس لاحد اعتراض عليها كما ذكرت وصدقت دكتورنا فنسج الاحداث يحتاج لحكمة الخالق الذي يخلق السبب والمسبب والنتيجة .كلامك متماسك متين ذو اصل ثابت وفرعه في السماء جزاك الله كل الخير لما ورد من تاكيد وايمان وثبات في الراي والعقل مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولاثباتاتك وادلتك الدامغة وحججك التي تؤكد ايمانك والتزامك .تحياتي .مهند الشريف

  2. كل الاحترام لشخصك الكريم
    جزاك الله خير الجزاء وأحسنه 🙂🙂
    باانتظار المزيد والمزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى