مقالات

بين العامية والفصحى (2) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

اللغتان؛ العامية والفصحى، توأمتان شقيقتان. فيهما ما في الأختين من الاختلاف، وبينهما ما بين الشقيقتين من الائتلاف،  فالفصحى مادة الشعر، والنثر، والعلوم، والفنون، والأدب، والفلسفة، والفقه، واللغة، والمعرفة، وسائر نتاج القرائح وثمار العقول. و‌الدارجة؛ المسماة بالعامية هي لغة الشئون العادية والأحاديث اليومية.

الأولى محكومة بقوانين وقواعد ، على العكس من أختها الدارجة التي تتغير بتغير الأجيال، وتتبدل بتبدل الظروف والأحوال، وقد حَقَّقَ الباحثون والمؤرخون؛ أن أصل ‌اللغة العربية ‌الفصحى، يرجع إلى يعرب بن قحطان-وإليه تنسب العربية. وقيل: عربي؛ لأن يعرب أول من نطق بها، وليس أحد غيره تكلم قبله بها- وهو المذكور في التوراة باسم “يارح بن يقظان”، وقحطان عند نسابة العرب ابن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

 قال حسان بن ثابت:

تعلمتم من منطق الشيخ يعرب

أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر

وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة

كلام، وكنتم كالبهائم في القفر

وهما بيتان تليهما أبيات تمدح يعرب وتفضله على سائر العرب.

ووجود العامية إلى جانب أختها الفصحى على ما بينهما من اتفاق وافتراق ظاهرة طبيعية في كل اللغات، وهي موجودة منذ تاريخٍ مبكر، تعيش مع الناس، ويعيشون بها في حياتهم اليومية.

ذكر ياقوت الحموي في “معجم الأدباء” (4/1750)، حديث سلمة بن عاصم ؛قال: قال الكسائي(ت ١٧٩ﻫ):”‌حلفت ‌ألا ‌أكلّم ‌عاميّا ‌إلا ‌بما ‌يوافقه ‌ويشبه ‌كلامه، وذلك أنني وقفت على نَجّار فقلت له: بكم ذانّك البابان؟ فقال بسلحتان، فحلفت ألا أكلم عاميّا إلا بما يصلحه”.

ويلاحظ ُ أن هذه القصة وقعت في القرن الثاني الهجري ، وأن كلام الإمام الكسائي قريب إلى العامة، ومع ذلك فقد استنكره النجّار وتلقاه بالسخرية والاستهتار، ظنا منه أن الكسائي  شيخ ظريف، خفيف الروح ، ‌متقعِّر في كلامه، يتعمَّدُ حوشي الكلام وغريبه!

وقد ذكر أبو عثمان الملقب بالجاحظ (ت ٢٥٥هـ) شواهد كثيرة تدل على ما ذكرنا، وقد حذر -رحمه الله- من الكلام مع العامة بغير لسانهم، وبغير ما يتناسب مع طبقتهم.

 يقول الجاحظ “البيان والتبيين” (1/16) :” لا ينبغي أن يكون اللفظ غريبًا وحشيًا إلا أن يكون المتكلم بدويًا أعرابيًا، فإن الوحشي: من المتكلم يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي”.

وكأني بالجاحظ يريد أن يقول: إن الكلام الذي يكثر دورانه على الألسنة هو الفصيح، وما كان دورانه قليلًا هو ‌الغريب الوحشي المخلّ بالفصاحة؛ ولو كان معروفًًا، فوجود هذه الظاهرة في تاريخ اللغات أمر طبيعي منذ أقدم العصور، والدليل على ذلك؛ أنه كان لكل قبيلة من القبائل العربية لهجتها الخاصة، غير أن سيادة لغة قريش وامتداد سلطانها الديني في النفوس جعل من لغتها هي اللغة السائدة فيهم، وصارت تعرف فيما بعد بلغة قريش.

ولقد استقر في وجدان العرب -بما لقريش من خدمة البيت وسدانته-، أنهم أفصح العرب، وأنهم -مع ذلك- كانوا يتخيرون من كلام الناس أحسنه وأجوده. قال د. صبحي الصالح “دراسات في فقه اللغة” (ص112) :” ولهجة قريش -فوق الذي أحيطت به من مظاهر التقديس- انفردت حقًّا بمزايا حفظت لها شخصيتها، وأتاحت لها من أسباب التكامل ما لم يتح لغيرها، فبُعدها الذي -وصفه ابن خلدون- عن بلاد العجم من جميع جهاتها، كان حاجزًا طبيعيًّا دون كثرة اتصالها بالأجانب، فلم يدخلها من لكنة الأعاجم ما داخل القبائل المتطرفة التي كانت على اتصال وثيق بمن حولها من غير العرب”.

وفي ‌‌باب “القول فِي أفصح العرب”: قال أحمد بن فارس “الصاحبي” (ص28) : عن ابن أبي عُبَيد الله قال: ‌أجمَعَ ‌علماؤنا ‌بكلام ‌العرب، ‌والرُّواةُ ‌لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم أن قُرَيشاً أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً”.

وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى “الألفاظ والحروف”(الاقتراح  ص90) ” : “‌كانت ‌قريش ‌أجود ‌العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمَّا في النفس”. ولقد بلغ من إيمان الشعراء بقريش ما ذكره الرواة؛ من أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش؛ فما حسنوه وقبلوه كان حسنًا، وما قبحوه ورفضوه كان قبيحًا.

قال الأستاذ سعيد الأفغاني “أسواق العرب” (ص277) :” عُكاظ هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، ..فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف. وحول هذه القباب الرواة والشعراء من عامة الأقطار العربية، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، وتلهج بها الألسن في البوادي والحواضر. يحمل إلى هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيه ولغة قطره، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاء حتى يتبقى الأنسب الأرشق، ويطرح المجفوّ الثقيل”ص (اه).

ذكر الأصفهاني في “الأغاني” (21/112): “فقدم عليهم علقمة الفحل فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:

هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟

فقالت قريش: ‌إنها ‌سمط ‌الدهر. أي: قلادته.

ثم عاد من العام المقبل، فأنشدهم قصيدته:

‌طَحَا ‌بِكَ ‌قَلْبٌ في الحِسَانِ طَرُوبُ

فقالت قريش : هاتان سمطا الدهر”.

وبفضل ما كان للغة قريش من تفوق وسيادة على سائر اللهجات العربية؛ غزارة في المادة، ورقة في الأسلوب، وقدرة على التعبير في مختلف فنون القول، فإن ذلك كله أفضى إلى أن أصبحت لغة قريش لغة الأدب عند جميع القبائل العربية، وأصبح العربي أيا كانت قبيلته يفتخر بقرض شعره، وتأليف نثره، بلغتها وعلى شرطها من البلاغة وقانونها في الفصاحة، وكان ذلك قبل نزول القرآن الكريم ،  فلما نزل القرآن بلغة قريش عزز سيادتها، وقوى سلطانها، فبفضله ازدادت ضبطا وإحكاما، وغزرت مادتها، واتسعت أغراضها، وارتقت معانيها، ورحبت أخيلتها، وتنوعت أساليبها، وتعددت صورها. وبفضله ظلت لغة الأدب والكتابة حتى يومنا هذا، وصار القرآن هو الذي يزيدها في الاتساع، والحافظ لها من الضياع، وهي معجزة لم تتفق لغيرها من اللغات، وستظل بمتربعة على عرشها مستوية على غرسها ما بقي القرآن، والقرآن باقٍ ومحفوظ بحفظ الله تعالى. قال الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحافِظُونَ} ( الحجر: 9 )

في كتابه: “ساعات بين الكتب” قال الأستاذ عباس محمود العقاد: “إن في كل أمةٍ لغة كتابةٍ ولغة حديث، وفي كل أمةٍ لهجة تهذيبٍ ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناسٌ يتمايزون في المدارك والأذواق”.

وبعده قال د. علي عبد الواحد وافي: “…فاختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرًا شاذًّا حتى نلتمس علاجًا له، بل هو السُّنة الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسُنة الله تبديلًا”.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي وان اهل العرب وخاصة قريش عرفت بالخطابة والالقاء وهذا كما قلت دكتور احمد الزبيدي يزيد من رشاقة اللغة وهي معنية بالصوت والموسيقا ورنينه وبحته وعذوبته وهذا يحتاج الى لغة متناغمة .اجدت وابدعت دكتور احمد الزبيدي والعامة استحسنوا السهل والبسيط وهذا طبيعي .كلامك في مكانه وله وقع وايقاع خاص .لك المحبة والتحية والاحترام وكل التقدير ولمواضيعك المهمة والحساسة والجريئة والشيقة تحياتي .مهند الشريف

  2. مقالة رائعة ومفيدة، تسلط الضوء بشكل متوازن بين العامية والفصحى، وتوضح بعمق الفرق بينهما وأسباب وجودهما معاً منذ القدم. أعجبني استخدامك للأمثلة التاريخية والشواهد الأدبية لتوضيح فكرة تأصيل الفصحى ومكانة لغة قريش، بالإضافة إلى اللمسات الفكرية لأدباء كبار كالجاحظ والعقاد. لقد أعطيتنا فهماً أعمق لأهمية الحفاظ على الفصحى كوعاء للثقافة والمعرفة، مع الاعتراف بمكانة العامية في حياتنا اليومية.
    بالتوفيق دكتور

  3. موضوع جميل،، موفق داىما دكتور باختيار مقالاتك
    وتعبيرك الشيق وسرد المعلومات
    دمت بخير🙂🙂🙂

  4. أسعد الله أيامكم دكتورنا أحمد الزبيدي وبارك الله بكم، وعندي ملاحظة واحدة فقط، إذ قلتم أن اللغة العربية كانت أول من تكلم بها هو يعرب، او قحطان عند غيره او اسم آخر مذكور في التوراه.. لكن هذا كله ضرب من الآراء والنظريات، والمعروف دينيا أن اول من نطق باللغة العربية هو آدم عليه السلام، ومن اللغة العربية تفرقت وتشعبت اللغات الأخرى بعد حذف وإضافة ونسيان وتلعثم من أبناء اللغات الأخرى، ولي بحث كامل عن نشأة اللغات فصلتُ فيه وبالأدلة القرآنية التي لا حياد عنها بأن اللغة العربية هي أول لغات العالم.. ودام علمكم وزادكم الله من علمه..

  5. السلام عليكم دكتور أحمد
    ما زلت تجود علينا بما فتح عليك رب العالمين
    مشكورا وجزاك الله كل خير

  6. مقالة رائعة كالعادة من الدكتور أحمد الزبيدي صاحب القلم المثقف الأديب. وقد أعجبني هذا الوصف الكاشف: “فبفضله ازدادت ضبطا وإحكاما، وغزرت مادتها، واتسعت أغراضها، وارتقت معانيها، ورحبت أخيلتها، وتنوعت أساليبها، وتعددت صورها. وبفضله ظلت لغة الأدب والكتابة حتى يومنا هذا، وصار القرآن هو الذي يزيدها في الاتساع، والحافظ لها من الضياع، وهي معجزة لم تتفق لغيرها من اللغات، وستظل [متربعة] على عرشها مستوية على غرسها ما بقي القرآن.”

    ومن المنقول من كلام سعيد الأفغاني: “فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، …”. ولو قال: “فما يكاد ينطق … حتى يتناقل أولئك …” أو “فإذا نطق … تناقل أولئك …” لاستقامت له الجملة.

    إن قول العقاد إن العامية كلام لا قواعد له ولا أصول فيه نظر. فالعامية لها قواعد وأصول صارمة لا يخرج عنها الناطقون بها وإن لم تكن مكتوبة. والصواب القولُ ليس لها قواعد وأصول مدونة.

    بارك الله في الدكتور الزبيدي ودام إتحافه المثري.

  7. مقال يرصف بماء الذهب ، و ليس هذا ببعيد عن أديب أريب نجيب بحجم الدكتور أحمد الزبيدي ، فقد آتاه الله بسطة في العلم و سعة في الثقافة تتأبى أن تكون لغير رجل ملأ الكتاب حياته فصار شغله الشاغل . و مما يسحر القارئ – ( و إن من البيان لسحرا ) – تلك التوليفة العجيبة و الفرائد النجيبة بدءا من تلك المقدمة الطللية إلى خاتمتها البهية . و لو كنت ذا رأي لقررتها في مناهج التعليم لتكون زادا لمن تطربه الكلمة و تعجبه الفكرة .
    زادك الله ألقا و تألقا دكتورنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى