مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم (10) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال العلامة محمود محمد شاكر -رحمه الله – :”إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).

‌قصَّة ‌يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام

 بعث الله يونس عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أهل (نِينَوَى) من أَرض الْموصل، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله عزوجل، فَكَذَّبُوهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهرِهمْ، ووعَدهُمْ بالْعَذَاب بَعد ثَلَاثٍ. فَلَمَّا تَحقَّقُوا من وقوع العذاب؛ تابوا، وأنابوا،  وَنَدِموا عَلَى مَا كان منهم ، فَلَبسُوا الْمُسُوحَ وفرقوا بَيْن كل بَهيمَة وَوَلَدِهَا، واستكانوا إلى الله، وتضرعوا إليه، فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَاب. – وَقَدْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ أو يزيدون- .

ولَما ذَهَبَ -عَلَيْهِ السَّلام- مُغَاضِبًا بِسَبَبِ قَوْمِهِ، ركب سفينة فِي البحر، فاضْطربت وثقلت بِمَا فِيهَا، وَكَادُوا يغرقون، فقَالُوا: نقترعُ فِي مَا بَيْنَنا، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيناه مِنَ السَّفِينَةِ تَخَفُّفًا مِنْهُ، فوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ-عليه السلام- فَأَعَادُوهَا ثَانِيَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَشمّر لِيَخْلع ثِيَابَهُ وَيُلْقي بِنَفْسِهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَعَادُوها ثَالِثَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْر، فبعث الله عز وجل له حُوتًا عَظِيمًا يلتقمه دون أن يَأْكُل لَهُ لَحْمًا أو يكسر لَهُ عَظْمًا، فَأَخْذَهُ فَطَافَ به الْبِحَارَ كُلَّهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي بطن الْحُوتِ حَسِبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فحرك جَوَارِحَهُ فَتَحَرَّكَتْ، فَإِذَا هُوَ حَيٌّ، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا وَقَالَ: يَا رَبِّ؛ سجدت لك فِي مَوضع لم يسجد لك فِي مثله ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، وَهُنَالِكَ، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فَأَمرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَة من يَقْطِين .

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}،  “فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ إِلا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ”.

مع ما لهذا النبي الكريم من فضل وتكريم، إلا أنهم طعنوا فيه بقول خبيث لئيم.

قالوا في قوله: {‌وَذَا ‌النُّونِ ‌إِذ ‌ذَّهَبَ ‌مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَاّ اله إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. نصٌّ في ذهابه مغاضبا، وهذا لا يليق بنبي، بدليل أن الحق -سبحانه-  ‌اسْتَنْكَرَ عليه ذلك، فقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ ‌كَصَاحِبِ ‌الْحُوتِ}. فاقتضى أن فعله كان محظورا.

لَيْسَ ‌منكورًا وَلَا عجبا

أَن يعود المَاء فِي نهره

الثاني: قوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}. وهذا شك في قدرة الله، والشك في قدرة الله كفر.

الثالث: قوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.

ولا خِلاف في أَنَّ ذَا النُّونِ هو يُونُسُ – عَلَيْه السَّلَامُ- لِأَنّ النُّون هُو السَّمَكَةُ.

أما الجواب عن الأول فقد تولاه صاحب “مُشكل القرآن”- الدينوري- قال :” المغاضبة: المفاعلة من الغضب، والمفاعلة تكون من اثنين، تقول: غاضبتُ فلانا مغاضبة وتغاضبنا: إذا غضب كلّ واحد منكما على صاحبه، كما تقول: ضاربته مضاربة، وقاتلته مقاتلة، وتضاربنا وتقاتلنا،  وقد تكون المفاعلة من واحد، فنقول: غاضبت من كذا: أي غضبت، كما تقول: سافرت وناولت، وعاقبت.

ومعنى المغاضبة هاهنا: الأنفة، لأن الأنف من الشيء يغضب، فتسمّى الأنفة غضبا، والغضب أنفة، إذا كان كل واحد بسبب من الآخر، تقول: غضبت لك من كذا، وأنت تريد أنفت، قال الشاعر:

 أُولَئِكَ قوم إِن هجوني هجوتهم

‌وأعبد ‌أَن ‌تهجى كُلَيْب بدارم

 يريد: آنف.

فكأنّ نبيّ الله-صلّى الله عليه وسلم-، لمّا أخبرهم أنّ الله منزل العذاب عليهم لأجل، ثم بلغه بعد مضيّ الأجل أنّه لم يأتهم ما وعدهم- خشي أن ينسب إلى الكذب ويعيّر به؛ لا سيّما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه، فدخلته الأنفة والحميّة، وكان مغيظا بطول ما عاناه من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم واستخفافهم بأمر الله، مشتهيا لأن ينزل بأس الله بهم. هذا إلى ضيق صدره، وقلّة صبره على ما صبر على مثله أولوا العزم من الرّسل. اه

الثاني: قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}.

أي: لن نضيّق عليه، وأنّا نخلّيه ونهمله. والعرب تقول: فلان مقدّر عليه في الرزق، أي مضيّق عليه. ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] . وقدر- بالتخفيف والتثقيل-، فعاقبه الله عن حميّته وأنفته وإباقته، وكراهيته العفو عن قومه، وقبول إنابتهم- بالحبس له، والتّضييق عليه في بطن الحوت، وقد تأولنا هذا؛ لأن منْ ظن عَجْزَ اللَّه تَعالى فهو كَافِرٌ بالإجماع، وَلَا خِلَافَ أَنّه لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى مؤمن؛ فَكَيْفَ نسبته إِلى المعصومين عَلَيْهِمُ السَّلَام فوجب التَّأْوِيلِ.

وأما الجواب عن الثالث فقد تقدم في الكلام عن أبينا آدم عليه السلام، ولا بأس أن نعيده هنا باختصار.

وهو أَنْ نقولَ: إِنّا لو حملْناه على ما قبل النبوة فلا كلام، وَلَوْ حملناه عَلَى مَا بعدها فهي واجبة التأويل، لأنا لَوْ أَجْرَيْنَاهَا عَلَى ظاهِرها، لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكون النَّبِيّ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْن، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَإِذَا وَجَبَ التَّأْوِيلُ فَنَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِه؛ فَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا.

‌‌

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحياتي واحترامي وان يونس لما لم يقع العذاب على قومه خشي الفتنة وازدياد الكفر فجاء برهان الله وحكمته البليغة اكثر ولماذا لا نقول ان الله وهو الابلغ في التمام يقدم في القصة والحديث ويؤخر لغاية وحكمة لله ما اريد قوله ان قوم يونس امنوا لما وقع ما وقع على بونس فكانت عبرة لقومه وليس له وهو النبي المعصوم وهذا التقديم والتاخير بلاغة معروفة في اللغة والسرد .كلامك جميل ومعك حق هو المعصوم الخلوق وكذلك الانبياء .الله يعطيك العافية جزاك الله كل الخير مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولدفاعك عن حدود الله وحوض الانبياء تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى