Uncategorized
وقفات مع المتنبي وشعره (11) د . أحمد الزبيدي – الإمارات
“البكاء على الشباب”
قال أبو الطيب المتنبي يبكي شبابه ويرجو إيابه – في “معجز أحمد” (ص 24):
ولقد بكيتُ على الشبابِ ولِمَّتِيْ
مسودةٌ ولِماءِ وجهيَ رَونقُ
حَذراً عليهِ قَبْلَ يَومِ فَراقِهِ
حتّى لكدتُ بِماءَ جَفْني أشْرَقُ
يقول: بكيت على الشباب قبل مجيء المشيب وشعر رأسي أسود ولماء وجهي رونق خشية فراقه، ولعلَّ الذي حمله على ذلك شعوره الذي عبَّر عنه في هذا البيت:
وَقَدْ أَرَاني الشَّبابُ الرُّوح في بَدَني
وَقَدْ أَراني المَشِيبُ الرُّوح في بَدَلي
أي قد كنت فتى يُريني شبابي رُوحي في بَدَني ولا استشعر قرب رحلته، فلما شبثُ شعرت بالموت وفراق الدنيا ليعمرها بَدَلي؛ أي غيري.
حقيق على أبي الطيب أن يبكي الشباب، فقد قال أبو عمرو بن العلاء: “ما بكت العرب شيئاً كما بكت الشباب، وما بلغت به قدره”.
ولا يعجبن أحد من هذا، فإنَّ حب الشباب فطريٌّ في الإنسان؛ فالتعلق به هو التعلق بالحياة، بل لا نغلو إذا قلنا: إنَّه هو الحياةُ؛ في أزهى عهودها، وأنضر ورودها، وذروة وجودها، لذلك كان التغني به دأب الشعراء على مر العصور وكرِّ الدهور،ة ولا أعلم أحداً من الناس إلَّا ويحفظ بيت أبي العتاهية الذي سارت به الركبان:
أَلَا لَيتَ الشَبابَ يَعُودُ يومًا
فَأُخبِرَهُ بمَا صَنَعَ المَشِيبُ
ولا نعلم ما الذي حمل الشاعر على قول هذا حتى نقرأ الأبيات قبله:
عَرِيتُ منَ الشبابِ وَكَانَ غضَّاً
كَما يَعرى من الورَق القضيبُ
وَنُحْتُ عَلَى الشبابِ بحرّ دمَعٍ
ومُنتَحبٍ فَمَا أغنَى النّحيبُ
قال الصوليّ: “قد أكثر في ذكر الشّباب القدماء وأهل الإسلام”.
قال بعض البلغاء: “الشباب باكورة الحياة. وأطيب العيش أوائله كما أنَّ أطيب الثمار بواكيرها”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: “ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلَّا شابّاً، ولا أوتي العلم عالم إلَّا وهو شابٌّ”؛ ثم تلا قوله تعالى: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} [الأنبياء: 60] .
قال الطبري: قال الذين سمعوه يقول {وتالله لأكيدنَّ أصنامكم بعد أن تولُّوا مدبرين} [الأنبياء: 57] .
ولعلَّك لا تستطيع أن تقف على حقيقة حرص الإنسان على الشباب وحسرته على زواله، إلَّا إذا قرأت قصة الرشيد -ومغنّيه إبراهيم الموصلي- ، ذلك الملك العتيد الذي كان يخاطب السحاب في السماء بقوله:” أمطري حيث شئت فإنَّ خراجك لي”.
جاء في “غرر الفوائد ودرر القلائد”: أنَّ إسحاق الموصلي حدَّث عن أبيه إبراهيم. قال: “غنيّت بين يدي الرشيد يوماً والستارة منصوبة:
وأرى الغواني لا يواصلن امرءاً
فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
فطرب الرشيد واستعاده وأمر لي بمال، فلما أردت الانصراف وجَّه إليّ كلاماً شديداً وقال: أتتغنَّى بهذا الصوت وجواريّ من وراء الستارة؟! لولا حرمتك لضربت عنقك! قال إبراهيم فتركت الصوت والله حتى نسيته!
ومن محاسن ما قيل في الشيب أنَّ النميري دخل على الرشيد فأنشده:
ما كنت أوفي شبابي كنه عزَّته
حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
فبكى الرشيد وقال: يا نميري لا خير في دنيا لا يخطر فيها بحلاوة الشباب ويستمتع بأيامه، وأنشد:
ولو انَّ الشيب رزءٌ حل بي
وقت ما استحققت شيباً لم أبل
بل أتاني والصبا يرمقني
مثل ما يأتي الكبير المكتهل
وأنشد:
حسرت عنّى القناع ظلوم
وتولّت ودمعها مسجوم
أنكرت ما رأت برأسي فقالت:
أمشيب أم لؤلؤ منظوم!
قلت: شيب وليس عيباً فأنّت
أنّةً يستثيرها المهموم
شدّ ما أنكرتْ تصرّم عهد
لم يدم لى، وأىّ شيء يدوم!
وفي “عيون الأخبار” أنَّ “الحارث بن سليل الأسدي زار علقمة الطائي فنظر إلى ابنته الزَّبَّاء -وكانت من أجمل أهل زمانها -فأُعجب بها فقال: أتيتُك خاطباً؛ وقد يُنكح الخاطِب، ويُدرك الطالِب، ويُمنح الراغِب. فقال له علقمة: أنت كُفؤ كريم، يُقبل منك الصفو، ويُؤخذ منك العفو، فأقِم ننظر في أمرك. ثم انكفأ إلى أمها فقال: إن الحارث سيد قومه حسباً ومنصباً وبيتاً، وقد خطب إلينا الزَّبَّاء فلا ينصرفن إلَّا بحاجته. فقالت امرأته لابنتها: أيُّ الرجال أحب إليك؟ الكهل الجحجاح الواصل الميّاح أم الفتى الوضّاح. قالت: لا، بل الفتى الوضّاح. قالت إنَّ الفتى يُغِيرُك، وإنَّ الشيخ يَمِيرُك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل كالحَدَث السنِّ، الكثير المنِّ. قالت: يا أمّاه!”
إنَّ الفتاة تُحِبُّ الفتَى
كحُبِّ الرِّعاءِ أَنِيقَ الكَلَا
قالت: “أي بُنيّة. إنَّ الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب. قالت: إنَّ الشيخ يدنس ثيابي، ويبلي شبابي، ويُشمت بي أترابي. فلم تزل بها أمُّها حتى غلبتها على رأيها، فتزوجها الحارث على خمسين ومائة من الإبل وخادم وألف درهم. فابتنى بها ثم رحل بها إلى قومه. فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قبّته وهي إلى جانبه. إذ أقبل شبابٌ من بني أسد يعتلجون، فتنفَّست صعداء ثم أرخت عينيها بالبكاء. فقال لها: ما يُبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفُروخِ. فقال لها: ثكلتك أمك، تجوع الحرَّة ولا تأكل بثدييها. فذهبت مثلاً. أما وأبيك لرُبَّ غارةٍ شهدتُها وسَبِيَّةٍ أردفتُها وخمر شربتها. فالحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك. وقال:
تَهَزَّأَتْ أَنْ رَأَتْني لابِساً كِبَراً
تحياتي واحترامي وان الشباب زينة الجنة التي وعد الله خالد دائم بثياب سندس خضر كارض في ريعانها وربيعها والمتنبي ومعك حق يبكي ايام الاقدام والنهوض والعزيمة في المجد كما ذكرت وقد بقي في ذلك فهو الفارس والشاعر وصديق الامير حتى مقتله ويبدو متهورا كما ذكرنا سابقا اكثر من الشباب في نهايته .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولما تزرعه في عقولنا من ثقافة ومعرفة واستنباض لغة .تحياتي .مهند الشريف
السلام عليكم دكتور أحمد
وان كان المشيب حضر ولكن القلب قلب شباب ذكرتني بقول الشاعر جرير:
إن العيون التي في طرفها…حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به وهن أضعف خلق الله اركانا
حلمك وصبرك علينا يا د. أحمد الزبيدي .
نقلت لي دفء السنين ولوعة الذكرى والفقد والحنين. ادامك الله لنا فخرا وذخرا.
أحسنت.
مقالة رقيقة جعلتني أبكي على الشّباب مع أنّي في ريعانه. ☺️
قرأت مقالتك بعمق، وأشعر أن المتنبي قد تجسد في كلماتك. لقد أظهرت لنا كيف أن شعره هو أكثر من مجرد كلمات، بل هو تعبير عن صراعات داخلية وطموحات إنسانية عميقة. تحليلك كان رائعًا، حيث أضأت على جوانب من شخصية المتنبي قد تكون غائبة عن الكثيرين. أشكرك على هذه الرؤية الأدبية المليئة بالمشاعر. أتطلع لقراءة المزيد من كتاباتك!”
ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب
وهكذا الحياة د. أحمد الزبيدي ( لقد أبدعت كعادتك)
العاقل من يدرك الأمر قبل وقوعه، ويستغل الشباب قبل تمني رجوعه… وما أجمل قول القائل
لا تغترر بشباب رائق خضل
فكم تقدم قبل الشيب شبان
هب الشبيبة تبلي عذر صاحبها
ما عذر أشيب يستهويه شيطان
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح فيما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
مقال جميل وشيق
جزاكم الله خيراً
أثرت الأشواق العزيزة والذكريات الجميلة
أبدعت دكتور مقال جميل و معبر
فتح الله عليكم سيدي
دمتم بخير