أخبار
عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم (12) د. أحمد الزبيدي – الإمارات
قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله – :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
قصَّة لوط عَلَيْهِ السَّلَام
نزح لوط عليه السلام عن مَحَلَّةِ عمه الخليل – عليه السلام- بِإذنه، فنزل بمدينة سَدُومَ، -هي سرمين- بلدة من أعمال حلب معروفة عامرة عندهم. كما قال ياقوت الحموي في كتابه “معجم البلدان”،
وأهلها يومذاك مِنْ أفجر النّاس، وأكفرهم، وأسوئهم طَويّة، وأخبثهم سيرة وسريرة؛ يقطعون السّبيل، ويأتون فِي نَادِيهِمُ المنكر، ويأتون الرجالَ شهوة مِنْ دون النّساء، فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن فعل المحرمات، والفواحش، والمنكرات، فتمادوا في طغيانهم، ولجوا في كفرانهم، فأنزل الله بهم من العقاب مَا لمْ يكن فِي خَلَدِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ، فجعلهم عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، غير أن الذين في قلوبهم مرض فرحوا بهذه الآية الكريمة : {هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين}، وقالوا :”هذا إغراء لهم بالفاحشة مع بناته، وذلك يدل على أنه أكبر فاحشة!
وقد نقل الإمام الكياهراسي عن الشافعي قوله:” الْكَلَامُ يُجْمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ، وَيُفَصَّلُ فِي مَقْصُودِهِ”، فلما كان غرضه ترجيح النساء على الغلمان لا جرم لم يتعرض لذكر النكاح؛ وإن كان ذلك معتبرا في نفس الأمر، والدليل على أن هذا الشرط معتبرا وجهان: الأول: قوله { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، ولا طهارة في الزنا.
الثاني: أن دعوته لبناته لو كانت فيها شبهة الدعوة إلى الزنا، لكان من حقهم أن يقولوا له : الزنا واللواطة فاحشتان على مذهبك، فأي فائدة في تفضيل أحداهما على الأخرى !
فإن قيل: هب أنه صحيح، ولكن كيف يجوز تزويج المسلمة من الكافر؟
وجوابه من أربعة وجوه:
الأول: أنه حكْم يخْتلف باختلاف الشرائع .
الثاني: أنه أراد موافقتهم وتسويفهم، وذلك لأن الرسل من الملائكة -عليهم السلام- كانوا أخبروه بهلاكهم عند الصبح. كما أخبر الله عنه {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} بمعنى أخبرناه بذلك.
الثالث: أنه يكفي في الإضافة أدنى سبب، فالبنات بنات الأمة، إلا أنه أضافهن إلى نفسه لأن الرسل عليهم السلام كالأب لأمتهم.
فال الإمام ابن حزم في كتابه “الفصل” (ج:4 ص : 7) :”
ذكروا قَول الله تَعَالَى فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ:
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رحم الله لوطاً، لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد، فظنوا أَن هَذَا القَوْل مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام إِنْكَار على لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ. أما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} فَلَيْسَ مُخَالفا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رحم الله لوطاً، لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد، بل كلا الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَام حق مُتَّفق عَلَيْهِ، لِأَن لوطاً عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ مَنْعَة عاجلة يمْنَع بهَا قومه مِمَّا هم عَلَيْهِ من الْفَوَاحِش من قرَابَة، أو عشيرة، أَو اتِّبَاع مُؤمنين، وَمَا جهل قطّ لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يأوي من ربه تَعَالَى إِلَى أمنع قُوَّة وَأَشد ركن، وَلَا جنَاح على لوط عَلَيْهِ السَّلَام فِي طلب قُوَّة من النَّاس فقد قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} فَهَذَا الَّذِي طلب لوط عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد طلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْصَار والمهاجرين مَنْعَة حَتَّى يبلغ كَلَام ربه تَعَالَى فَكيف يُنكر على لوط أمرا هُوَ فعله عَلَيْهِ السَّلَام؟ تالله مَا أنكر ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن لوطاً كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد؛ يَعْنِي من نصر الله لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَلم يكن لوط علم بذلك، وَمن اعْتقد أَن لوطًاً كَانَ يعْتَقد أَنه لَيْسَ لَهُ من الله ركن شَدِيد فقد كفر، إِذْ نسب إِلَى نَبِي من الْأَنْبِيَاء هَذَا الْكفْر، وَهَذَا أَيْضا ظن سخيف إِذْ من الْمُمْتَنع أَن يظنّ بِرَبّ أرَاهُ المعجزات وَهُوَ دائباً يَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا الظَّن، وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:” {هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين}، فَإِنَّمَا أَرَادَ الترويج وَالْوَطْء فِي الْمَكَان الْمُبَاح، فصح مَا قُلْنَا، إِذْ من الْمحَال أَن يَدعُوهُم إِلَى مُنكر وَهُوَ ينهاهم عَن الْمُنكر.